قواعد لغة الحضارات - فرنان بروديل - قراءة: د. هيثم مزاحم

Grammaire des civilizations
Fernand Braudel
قواعد لغة الحضارات
للمؤرخ الفرنسي فرنان بروديل

 د. هيثم مزاحم

مجلة التفاهم، العدد 32 - ربيع 2011



فرناند بروديل (1902-1985) هو أحد أشهر المؤرخين الفرنسيين خلال القرن العشرين بل وأحد أبرز المؤرخين الذين عرفهم العالم حتى اليوم. وهو أحد مؤسسي المدرسة الفرنسية الجديدة لكتابة التاريخ المعروفة باسم "مدرسة الحوليات" التي رأت النور في ثلاثينات القرن الماضي.
ولد بروديل في عام 1902 في قرية صغيرة في منطقة اللورين الفرنسية الواقعة أنذاك تحت الاحتلال الألماني، وحصل في يوليو 1923 على شهادة التبريز المرموقة. ظل بروديل مرتبطاً جداً بأصوله الفلاحية وكان يردد دائماً: "أنا مؤرخ من أصل فلاحي". مارس بروديل مهنة تدريس مادة التاريخ أولاً في الجزائر، التي كانت لا تزال في ظل الاستعمار الفرنسي، وذلك خلال سنوات ‬1924-‬1932، في مدينة قسنطينة ثم في العاصمة الجزائر.
نال بروديل شهادة الدكتوراه عن أطروحة موضوعها "البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني"، وهو عنوان كتابه الشهير الذي يعتبر أحد أهم الكتاب التاريخية الصادرة في القرن العشرينن والذي نقل إلى لغات عديدة.
وبعد تجربته في التدريس في الجزائر والبرازيل، عيّن أستاذاً في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في باريس. في عام 1940 اعتقله الألمان ونقلوه إلى ألمانيا حيث وضع تحت الإقامة الجبرية حتى عام 1945، حيث أمضى كل تلك السنوات في إعداد رسالة الدكتوراه. وفي السنة 1947 ناقش رسالة الدكتوراه وموضوعها "البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني".
وعقب الحرب العالمية الثانية، أصبح إلى جانب المؤرخ لوسيان فافر مديراً مساعداً لمجلة الحوليات(Les Annales) الشهيرة، ثم اصبح بعد وفاة فافر عام 1967 مديراً لها. كما أصبح كاتباً للشعبة السادسة التطبيقية حيث استطاع تحويلها إلى أكبر مؤسسة للعلوم الاجتماعية في فرنسا، وهو ما أثار حفيظة الجامعات الفرنسية وعلى رأسها السوربون العريقة.
كان هناك تطابق بين توجه دراسته حول المتوسط وتوجهات مجلة "الحوليات"، وعيّن في العام 1949 مديراً لمركز الدراسات التاريخية.








مجلة الحوليات
ومعلوم أن مجلة الحوليات صدر أول أعدادها في ينير 1929 باسم "حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي" ثم غيّرت اسمها إلى "حوليات التاريخ" ثم "أمزاج تاريخية" وفي عام 1946 تبنت اسم "الحوليات" اقتصاديات – مجتمعات – حضارات". وتميّزت المجلة بمطالبتها ببعث تاريخ جديد يعنى بالاهتمام بدراسة المجتمع والاقتصاد والذهنيات، أي "البنى الخفية"، وتقليص التاريخ السياسي والعسكري والحدثي بصفة عامة. كما دعت إلى أن يشمل التاريخ ما هو غير مكتوب مثل علم الآثار وعلم الأيقونات. وقد تأثرت مدرسة "الحوليات" بعالم الاجتماع الفرنسي الشهير إميل دوركهايم وانشغلت بالحوار مع علماء الجغرافيا، وأبدت اهتماماً ملحوظاً بالاقتصاد، ودعت إلى مزيد من الانفتاح على العالم وعدم الانحباس في فرنسا أو أوروبا. ومع بداية الستينات، برزت بوضوح همينة الأنثوربولوجيا البنيوية على المجلة بفعل تاثير كلود ليفي ستراوس، وظهر ما سمّي بالتاريخ الجديد.
وقد كتب المؤرخ والقانوني الفرنسي ايف لوموان، الذي تعرّف على بروديل عام 1979 وبقي قريباً منه حتى وفاته عام ‬1985، سيرة حياة بروديل تحت عنوان "فرنان بروديل: طموحات مؤرخ وأشكال قلقة"، قال فيها إنه يريد من خلال كتابه أن يوضّح "طموحات" المؤرخ فرنان بروديل والأسئلة التي كان يطرحها على نفسه وما حققه، وما لم يستطع تحقيقه، من إنجازات ومصادر قلقه الذي يمكن استشفافه من أعماله، بمعنى أنه ليس "قلقاً بسيكولوجياً"، ولكنه ذا "طبيعة علمية". ذلك أن بروديل كان يراوده قلق كبير بشأن "المعنى الجديد" الذي ينبغي أن يأخذه التاريخ في "جوقة" العلوم الاجتماعية، أي القلق الذي كان مصدره "حوار" التاريخ المقطوع مع العلوم الصرفة، مثل الفيزياء والرياضيات ــ التي أحدثت نظريات اينشتاين نوعاً من "إعادة صياغتها" فيما يتعلق بنسف الأفكار المتعلقة بالزمان والمكان اللذين كان المؤرخون يتحركون في مجالهما حتى ذلك الوقت. ويدعو لوموان إلى إعادة قراءة الحوارات التي دارت بين مؤسس "البنيوية" كلود ليفي ستروس والمؤرخ فرناند بروديل منذ ثلاثينات القرن الماضي لفهم عمق "المنعطف" الذي شرع به بروديل فيما يتعلق بفهم التاريخ.
إحدى المقولات الأساسية التي يؤكد عليها بروديل في سيرورة التاريخ هو أن التبدلات العميقة ــ المنعطفات- تتم خلال "المدى الطويل" بحيث أنها تستغرق أجيالاً كاملة. يقول بروديل: "إن الهدف السري للتاريخ، ودافعه العميق، ليس شرح وتفسير ما هو معاصر". والمقولة الأساسية الأخرى التي يؤكد عليها بروديل هي دور العوامل الاقتصادية والاجتماعية في صياغة تاريخ المجتمعات وفي صياغة "قواعد الحضارات".








كتاب "قواعد الحضارات"
وليس كتاب "قواعد لغة الحضارات"، سوى مساهمة من بروديل في تعليم التاريخ في الصفوف الثانوية. ولم يحظَ بالصيت الذي نالته كتبه الأخرى مثل "المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني"(1949)، والحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية(1979)، وهوية فرنسا(1986). ويعود ذلك إلى الطبيعة المدرسية والبيداغوجية والتبسيطية لهذا الكتاب الذي صدر لأول مرة في عام 1963 تحت عنوان "العالم الراهن" ثم أعيد نشره عام 1987 تحت عنوان جديد هو "قواعد لغة الحضارات"، بعد مراجعته في ضوء مستجدات الأحداث العالمية ولجعله كذلك في متناول الجمهور العريض من القراء.
ويندرج هذا الكتاب ضمن مشروع تحوير برامج تدريس التاريخ في البكالوريا الفرنسية، في خضم إعادة إعمار فرنسا بعد الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، ومراجعة كل الاستراتيجيات الاقتصادية والسياسية والثقافية وكذلك التعليمية التي أدت مجتمعة إلى ما أسماه مارك بلوخ بـ"الهزيمة الغربية" لعام 1940. وكان بروديل يقف خلف إدراج العلوم الاجتماعية في برامج البكالوريا عام 1962، إلا أن أساتذة التعليم الثانوي عارضوا ذلك بدعوى أن ذلك التحوير غير مجدٍ، وأن الكتاب بروديل "العالم الراهن" صعب وناقص من حيث التاريخ الحدثي، واستطاعوا بعد حملة شعواء إلغاء دراسة الفضاءات الحضارية الكبرى من البكالوريا. وهكذا تغلبت الذهنية المحافظة على إرادة التجديد التي كانت تعج بقلب بروديل.
يحمل كتاب "قواعد لغة الحضارات"، الذي استطاع بروديل فيه التوفيق بين التبسيط ومقتضيات العلم، بصمات رواج دراسة الفضاءات الثقافية(Area Studies) التي شاعت في خمسينات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأميركية، كما تأثر بروديل بالمذهب البنيوي، وخاصة أفكار الفيلسوف والأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستراوس، التي ترفض فكرة أفضلية حضارة على أخرى وتفندها.
لقد درس بروديل الحضارات بلغة تأليفية عالية، ونأى بنفسه عن الذهنية "المتمحورة حول الذات الأوروبية" والاستعلاء الذي طبع كتابات المثقفين الغربيين عن العوالم الأخرى. كان مسكوناً بفكرة أن علم التاريخ هو "العنصر الذي من دونه لا يمكن لأي وعي وطني أن يتشكل، والوعي الوطني الذي من دونه لا يمكن لأي ثقافة أصيلة أو أي حضارة حقيقية أن تتشكل".
لقد أعمل بروديل تفكيره في موضوع الحضارات الإنسانية وحاول إلقاء نظرة تأخذ بعين الاعتبار الجوانب المادية للحضارات(البنى الاقتصادية) وكذلك الأديان والثقافات والأطر السياسية، وذلك على المدى الطويل. ونجد في ثنايا الكتاب أفكار بروديل ومفاهيمه المعروفة، لكنها ليست كلها مبلورة بشكل واضح، لأن المؤلف لم يكن قد بلغ بعد نضجه الفكري الكامل. وتدور هذه الأفكار حول الأهمية المحدودة للأحداث السياسية في التاريخ الإنساني وحول محدودية حرية الإنسان في صنع تاريخه وحول قوة تاثير الجغرافيا وخاصة البحر. ومن أفكاره ضرورة اعتماد "المدى الطويل" للوقوف على معنى الأحداث والظواهر التاريخية العميقة والرئيسة، وهو مفهوم مستوحى من الجغرافيا والماركسية. كما يؤمن بروديل بضرورة مقاربة الاقتصاديات العالمية بمفهوم الاقتصاد ــ العالم، وأهمية التثاقف بين الحضارات.
وعلى الرغم من مرور عقود طويلة على كتابته، تكمن أهمية كتاب بروديل برؤيته للتاريخ كعملية شاملة تدخل فيها الجغرافيا والديموغرافيا والاقتصاد إلى جانب الحكومات والجيوش والحروب والمناورات السياسية. هنا لا يبقى التاريخ تسلسل عهود وحكام وحروب، بل يبدو أن هذه هي أقل الأشياء بروزاً وقد لا تكون سوى نتائج في الدورة الشاملة التي تلعب فيها الثقافة والاقتصاد والجغرافيا أدواراً محددة.

فكرة الأزمنة الثلاثة
ميّز بروديل بين ثلاثة أزمنة تاريخية: أولاً الزمن الجغرافي أي التاريخ شبه الثابت، المستقر، الذي لا يكاد الإحساس بــ"تقلصاته" ممكناً. وهذا الزمن التاريخي يخص بالتحديد العلاقة مع البشر ومع الوسط المحيط.
أما الزمن الثاني الاقتصادي الاجتماعي فيخص التاريخ "المتحرك ببطء"، ويقصد فيه بروديل الزمن الاجتماعي الذي يخص فعل المجموعات الإنسانية الضمني، أي الذي يحدث في عمق المجتمعات بحيث لا يبدو منه الشيء الكثير على السطح.
وأخيراً الزمن الثالث السياسي الذي يخص التاريخ التقليدي الحدثي "المتحرك على السطح"، أي الذي يعرف "أحداثاً ـــ منعطفات" في تاريخ المجتمعات كنتيجة لـلعمل البطيء للمجموعات الاجتماعية على المدى الطويل. وهذا التاريخ هو أكثر التواريخ تشويقاً وأكثرها غنى على المستوى الإنساني.
ولم يكن بروديل ينظر إلى الرأسمالية التي تمثل تعبيراً أوروبياً صريحاً عن حضارة مادية بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر على أنها "أيديولوجيا". بل كان يعتبرها "منظومة اقتصادية" ولّدتها تدريجياً إستراتيجيات البحث عن السلطة. وم يكن يعتبرها خلافاً لماركس بأنها تعمق التفاوت بين البشر، بل رأى أن التفاوت كان أكثر عمقاً في المجتمعات ما قبل الرأسمالية، وأثبت أن الاحتكار سمة أساسية من سمات الرأسمالية.
في تقديمه للكتاب، اعتبر الكاتب موريس أيمار أن بروديل حرص على إعادة التأكيد على قناعته الشديدة بضرورة بعث مشروع بيداغوجي حقيقي يفرد للتاريخ مكانة مركزية(من ينكر الدور العنيف للتاريخ؟)، ويستعمله بصفته أداة متميزة لسبر أغوار العالم وتفسيره، أو بالأحرى تفسير الماضي والحاضر جميعهما. ولم يتوقف بروديل عن التكرار بأن التاريخ التقليدي – السرد المعتمد على كرونولوجيا دقيقة – هو الوحيد القادر على استقطاب اهتمام التلاميذ الصغار الأطفال بالمقارنة مع الراشدين في الأقسام النهائية – وتمكينهم من التعرف الضروري إلى الزمن.
لقد عرض بروديل في محاضرة له في ساوباولو في عام 1936 أفكاره الأساسية التي ظل يكررها خلال خمسين سنة لاحقة، والتي يرى فيها أنه ليس ثمة سر لتحويل "الرواية المدرسية" إلى "رواية مغامرات" غير البساطة التي هي التمسك بما هو أساسي، وهي ليست "البساطة التي تشوّه الحقيقة وتكون كالفراغ وتتماهى مع الضحالة وإنما الباسطة التي هي الوضوح ونور الذكاء... النفاذ إلى ما يشكل محور أي حضارة..".
لقد طوّر بروديل تفكيره ووصل أوجّه حول مقولة الحضارة نفسها، التي اكتشفها في المتوسط بصفتها "أولى الثوابت وأكثرها تعقيداً" بما تنطوي عليه من تناقضات، لأن للحضارات "مضامين أخوية وليبرالية، لكن هذه الحضارات هي في الآن نفسه مغلقة وإقصائية وعنيفة ... ومسالمة ... ولا تنقصها النزعة القتالية، وهي ذات ثبوتية مثيرة للاهتمام".
لقد تبنى بروديل مقولة مارك بلوخ أحياناً كثيرة وآخرها في مقدمة كتابه "هوية فرنسا" حيث قال: "ليس ثمة تاريخ خاص بفرنسا، وإنما هناك فقط تاريخ خاص بأوروبا.. وليس هناك تاريخ خاص بأوروبا وإنما هناك تاريخ خاص بالعالم".

تعريف الحضارة وتغيّرات اللغة
يقول بروديل إنه سيكون من الشائق لو أمكن تعريف كلمة حضارة تعريفاً واضحاً وبسيطاً مثلما نعرّف الخط المستقيم أو المثلث أو الجسم الكيميائي. لقد ظهرت كلمة حضارة Civilisationفي القرن الثامن عشر وهي كلمة اشتقت من Civilise’ ومن فعل Civiliser الفرنسيين وهما كلمتان موجودتان منذ أمد طويل ومستعملتان منذ القرن السادس عشر. وهي ظلت حتى العام 1732 تستعمل بمعنى قانوني يشير إلى معنى "مدنية" عند الحديث عن قضية إجرامية أي يقال قضية مدنية. أما العبارة الحديثة التي تعني "الانتقال إلى الوضع المتحضر" فقط ظهرت متأخرة عام 1752 على لسان تورغو، ودخلت الكلمة رسمياً في نص مطبوع مع كتاب "مصنف حول السكان" لميرابو Mirabeau. ومن اللافت أن فولتير لم يستعمل تعبير "الحضارة" على الرغم من كونه الرجل الذي تصوّر هذه المقولة في رسالته حول "العادات وروح الأمم"(1756) وأنجز صيغة أولى لتاريخ عام للحضارة. إن كلمة حضارة بمعناها الجديد مناقضة لكلمة "برابرية" التي يقصد بها الشعوب المتوحشة والبدائية مقابل الشعوب المتحضرة.
كانت كلمة "حضارة" موجودة في إنجلترا منذ 1772 بمعنى Civilization، وهي الكلمة التي تفوقت على Civility التي كانت قائمة منذ زمن بعيد. أما كلمة Zivilisation فقد استقرت من دون عناء في ألمانيا جنباً إلى جنب مع الكلمة القديمة Bildung.
لقد كانت الكلمة الجديدة مصحوبة بتطوافها حول أوروبا بكلمة قديمة هي ثقافة وظلت كلمة ثقافة لفترة طويلة مرادغة لكلمة حضارة. ففي جامعة برلين عام 1830 كان الفيلسوف هيغل يستعمل الكلمتين وكأن لهما المعنى نفسه. لكن لاحقاً ظهرت الحاجة للتفريق بينهما.
إن مقولة حضارة مزدوجة تعني في الآن نفسه قيماً أخلاقية وقيماً مادية، إذ ميّز كارل ماركس بين البنى التحتية(المادية) والبنى الفوقية(الروحية)، والأخيرة تخضع بشدة للأولى. وقد قال شارل سانيوبوس إن الحضارة هي الطرقات والموانئ والمرافئ، فيما رأى مارسيل موس أن الحضارة ليست الروح فحسب بل هي كل المكتسبات البشرية، بينما اعتبر المؤرخ أوجين كافينياك أنها "الحد الأدنى من العلم والفن والنظام والفضائل..".
إذاً، الحضارة هي طابقان، يقول بروديل، و"من هنا جاءت الرغبة في التمييز بين الكلمتين ثقافة وحضارة، على أساس أن واحدة منهما تتكفل بنبل الروحانيات والثانية بتفاهة الماديات، لكن ما هو مأساوي هو أن لا أحد استقر رأيه على هذا التمييز الذي سيظل متغيّراً حسب البلدان أو في البلد نفسه بحسب الأزمنة والبلدان..".
في ألمانيا أفضى التمييز إلى إيلاء نوع من الأولوية إلى ثقافة Kultur وإلى الاستنقاص الواعي من كلمة حضارة. أما بالنسبة أ. تونيس والفرد فيبر، فإن حضارة ليست سوى مجموعة من المعارف التقنية والممارسات ومجموعة من الوسائل لتغيير الطبيعة. أما الثقافة فهي على العكس من ذلك، فهي المبادئ القيمية والقيم والمثل، أو باختصار الروح. وبحسب بروديل، فإن هذه المواقف تفسّر الفكرة التي تبدو غريبة بالنسبة لأي فرنسي والصادرة عن المؤرخ الألماني فيلهلم مومسن بقوله: "إن واجب أي إنسان اليوم(عام 1951) هو ألا تحطم الحضارة الثقافة وألا تحطم التقنية الكائن البشري".
وتثير هذه الجملة الغرابة بالنسبة لبروديل لأن كلمة حضارة هي السائدة في فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة، بينما لكلمة الثقافة في بولونيا وروسيا وألمانيا القول الفصل. ففي فرنسا، لا تظهر كلمة ثقافة بمظهر قوي إلا عندما يتعلق الأمر بالإشارة إلى "كل شكل شخصي للحياة الروحية"، بحسب هنري مارو، وبول فاليري الذي يقول: إننا نتكلم عن الثقافة لا عن الحضارة، على أساس أن الحضارة تعني أساساً القيم الجماعية.
ويرى بروديل أننا أمام فيض من التعقيدات، إذ بحث الأنثروبولوجيون الأنغلوسكسكونيون عن كلمة مغايرة لكلمة الحضارة كي يطبقونها على المجتمعات البدائية، إذ كانت اللغة الإنجليزية تستخدم كلمة حضارة للإشارة إلى المجتمعات الحديثة. فقالوا إن هناك ثقافات بدائية تقابلها حضارات المجتمعات المتطوّرة. وتغيب كل التعقيدات بالنسبة إلى نعت "ثقافي" الذي تم باتكاره في ألمانيا نحو 1850وهو نعت يعني كل المضمون الذي تنطوي عليه كلمتا حضارة وثقافة، فهو لم يجد نعتاً ينافسه، وهو الوحيد الذي يخدم نفسه بنفسه.

من حضارة إلى حضارات
بحدود عام 1810، انتقلت كلمة حضارة التي ظلت بصيغة المفرد إلى صيغة الجمع. وأصبحت "تنزع إلى اتخاذ معنى جديد مغاير تماماً: هو مجموع السمات التي تتصف بها الحياة الجماعية لمجموعة بشرية أو لعصر".إن الطرح الواضح لمشكلة الحضارة(بصيغة المفرد) أو الحضارات(بصيغة الجمع) معناه الاصطدام بتعقيد جديد بالهيّن. فصيغة الجمع هي التي تفرض نفسها بالنسبة إلى ذهنية رجل من القرن العشرين، لأنها أكثر من صيغة المفرد مرتبطة مباشرة بتجاربنا الشخصية. فالمتاحف ــ على سبيل المثال ــ ترحل بنا عبر الزمن إلى عمق حضارات بائدة.
إن استعمال صيغة الجمع في تعريف الحضارة هو نتيجة اختفاء مفهوم معيّن والاندثار التدريجي للفكرة الخاصة بالقرن الثامن عشر والتي مفادها أن الحضارة مرادفة للتقدم في حدّ ذاته، وهي مقصورة على بعض الشعوب المحظوظة أو مجموعات "النخبة". ولحسن الحظ، يقول بروديل، تخلص القرن العشرين من جملة من الأحكام القيمية، بحيث يصعب تحديد أي الحضارات أفضل، ووفق أي مقاييس. وهكذا فقدت الحضارة، بصيغة المفرد، بريقها ولم تعد على غرار القرن الثامن عشر، أعلى قيمة أخلاقية وثقافية وأرقاها. وأصبحت اللغة الحديثة تشعر بشيء من الحرج عندما تستعمل كلمة حضارة بمعناها القديم الذي يعني الامتياز والتفوّق البشري.

الحضارات فضاءات
يقول بروديل: "ليس بالإمكان تعريف لفظ الحضارة إلا بتضافر إضافات كل علوم الإنسان بما فيها التاريخ". ويحاول بروديل تعريف مفهوم الحضارة بالرجوع تباعاً إلى الجغرافيا وعلم الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس الجماعي، "فهي أربع سفرات" إلى أراضٍ غير متشابهة أبداً، لكن الأجوبة المتحصل عليها ستكون متقاربة في ما بينها على الرغم مما يبدو عكس ذلك من الوهلة الأولى.
يمكن تحديد الحضارات، مهما كان حجمها سواء أكانت عظيمة أم ضحلة، على خريطة. ويرتبط جزء رئيس من حقيقتها بمعوقات مكان استقرارها أو بمزاياه، علماً بأن هذا المستقر قد صاغه الإنسان منذ قرون وربما منذ آلاف السنين. والحديث عن الحضارة معناه الحديث عن ضفاءات وأراضٍ وتضاريس ومناخات ونباتات وأجناس حيوانية ومنافع معطاة او مكتسبة.
وبالنسبة للمنافع المعطاة، فكل حضارة هي نتاج امتيازات مباشرة استغلها الإنسان باكراً. وهكذا فقد ازدهرت في فجر التاريخ الحضارات المائية للعالم القديم على ضفاف الأنهار، والحضارات البحرية على شواطئ المحيطات والبحار. يتساءل بروديل: أو ليس أغلب العالم الغربي الحالي متحلقاً حول المحيط الأطلسي كما كان العالم الروماني متحلقاً في الماضي حول المتوسط؟ ويقول: "إن هذه الحالات الكلاسيكية تكشف في المقام الأول أولوية التباذل، فليس ثمة حضارة قادرة على العيش من دون حركية خاصة، فكل واحدة تغتني بفضل التبادل والمصادمات التي يتسبب بها الجوار المثمر، فلا يمكن أن نفهم الإسلان من دون حركة قوافله عبر تلك "البحار الشاسعة بلا ماء"، تلك الصحارى والسهوب الموجودة في فضائه، ولا يفهم الإسلام من دون تحركاته البحرية في المتوسط وعبر المحيط الهندي حتى مالاكا والصين".
يطرح بروديل سؤالاً عن نجاحات الحضارات ولماذا حققها بشر ولم يحققها آخرون؟ ولماذا تحققت في منطق دون أخرى، وذلك على امتداد أجيال؟ لقد قدم أرنولد توينبي نظرية مغرية في هذا المجال، فوراء كل نجاح بشري يوجد دائماً تحد واستجابة، فالطبيعة تطرح نفسها على البشر بصفتها صعوبة لا بد من التغلب عليها، وإذا ما رفع الإنسان التحدي، فإن تصديه يخلق القواعد نفسها للحضارة. لكن إذا دفعنا هذه النظرية إلى مداها الأخير، فهل يجب أن نستنتج أن تحدي الطبيعة كلما كان كبيراً، كان تصدي البشر لها أقوى؟ يشكك بروديل في ذلك مشيراً إلى أن إنسان القرن العشرين المتحضر قد تحدى الصحاري والمناطق القطبية أو الاستوائية، لكنه على الرغم من المصالح التي لا يشك في أهميتها أحد، الذهب والنفط، فإنه لم يتمكن من الانتشار فيها وخلق حضارات حقيقية فيها.

المجال الثقافي
إن المجال الثقافي هو حسب لغة الأنثروبولوجيين فضاء تسيطر في صلبه بعض السمات الثقافية المتضافرة. فهناك بعض المجالات الثقافية التي تشترك في ما بينها ضمن تجمعات كبرى حسب بعض السمات المشتركة للمجموعة التي تميّزها عن بعض التجمعات الكبرى الأخرى. وطبيعي أن يتاسى الجغرافيون والمؤرخون بالأثروبولوجيين فيتحدثون عن مجالات ثقافية، يقصدون حضارات متطوة ومتعددة هذه المرة، هي فضاءات يمكن تفكيكها كل مرة إلى سلسلة من الأقاليم الخاصة، وهذا التفكيك الممكن يبقى أساسياً، وخاصة عند الحضارات الكبرى التي تتجزأ بانتظام إلى وحدات ضيقة المجال.
إن الحضارة المسماة بالحضارة "الغربية" هي في الوقت نفسه "الحضارة الأميركية" للولايات المتحدة الأميركية وحضارة أميركا اللاتينية، وهي أيضاً روسيا وبطبيعة الحال أوروبا. وأوروبا نفسها هي سلسلة من الحضارات البولونية والألمانية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية الخ.. ويدعو بروديل كذلك إلى عدم إغفال كون هذه الحضارات القومية تنطوي بدورها على "حضارات" أصغر: الإيكوس، إيرلندا، كاتالونيا، صقلية، بلاد الباسك... ولا ننسى أن تلك التقسيمات والفيسفاء هي ذات المربعات المختلفة الألوان هي سمات ثابتةأو شبه ثابتة. إن ثبات هذه الفضاءات المأهولة للغاية والحدود التي تحيط بها، لا يعني أن تلك الحدود تمثل حاجزاً أمام التنقلات الكبيرة للممتلكات الثقافية التي لا تنفك تمر عبرها. فكل حضارة تصدر ممتلكاتها الثقافية وتتلقى في المقابل ممتلكات غيرها. ويقصد بالممتلكات الثقافية هنا الصادرات من آلات وسلع ومنتجات إلى العادات والأفكار والفنون، خصوصاً مع عدوى الحضارة الصناعية.

الحضارات مجتمعات واقتصاديات
لا وجود لحضارات من دون مجتمعات تحتضنها وتنشطها بفعل توتراتها وتطورها. ومن هنا يأتي سؤال بروديل: هل من الضروري خلق كلمة حضارة ثم الرقي بها على المستوى العلمي لو كانت مرادفاً لكلمة مجتمع؟ ألا يستعمل توينبي كلمة مجتمع Society مكان كلمة حضارة Civilization وعوضها؟ ألم يظهر لمارسيل موس أن "لفظ الحضارة هو بالتأكيد أقل وضوحاً من لفظ مجتمع الذي تعنيه الحضارة ضمنياً".
لا يمكن أبداً فصل المجتمع عن الحضارة والعكس صحيح، واللفظان يتعلقان بالشيء نفسه. وكما يقول كلود ليفي ستراوس: "إنهما لا يتطابقان مع اشياء متباينة وإنما مع وجهتي نظر متكاملتين حول الشيء نفسه الذي يمكن توصيفه بصفة ملائمة إما بواسطة الكلمة الأولى أو بواسطة الكلمة الثانية بارتباط المعنى الذي نتبناه".
إن الحضارة الغربية التي نعيش فيها هي رهينة "الحضارة الصناعية" التي تنشطها، ويكون من اليسير توصيفها عند توصيف هذا المجتمع نفسه، أي توصيف مجموعاته البشرية وتوتراته وقيمه الثقافية والأخلاقية ومُثُله وحركاته المتواترة وأذواقه... إلخ، أي باختصار توصيف الناس الذين يحملون راية هذه الحضارة ويمرّرونها إلى غيرهم. وإذا ما تحرك المجتمع الضمني أو تغيّر، فإن الحضارة تتحرك وتتغيّر. فكما يقول لوسيان غولدمان فإن كل حضارة تستمد إضاءاتها الأساسية من الموقف الذي تتبناه إزاء العالم، لكن هذا الموقف لا يعدو كونه أن يكون في كل مرة، إنعكاساً أو نتيجة للتوترات الاجتماعية المهيمنة. فالحضارة كالمرآة تعمل وكأنها الآلة التي تسجّل تلك التوترات والمجهودات.
ويرى بروديل أن التماهي بين الحضارات والمجتمعات يقف وراء أطروحات كلود ليفي ستراوس والأنثروبولوجيين المتعلقة بالتفريق بين الثقافات والحضارات، وبين المجتمعات البدائية والحديثة.
إن المظهر الخارجي الأقوى في ما يتعلق بالفروق بين الثقافات والحضارات هو حضور المدن أو غيابها. فالمدينة تزدهر إذا تعلق الأمر بالحضارة، لكنها تظل جنينية إذا تعلق الأمر بالثقافات. فحتى الحضارات والمجتمعات المتطورة تفترض وجود مجتمعات مبتدئة داخل حدودها نفسها، وهو ما يعطي بروديل مثالاً عليه الحوار المهم المستمر بين المدن والأرياف. فالتطور لا يمس على التساوي جميع الشرائح في اي مجتمع، وتوجد فيه جزر صغيرة من التخلّف.
ويرى بروديل أنه نظراً إلى العلاقة المتينة بين الحضارة والمجتمع، توجد فائدة في التصرّف كعالم الاجتماع كلما تم التطرق إلى التاريخ الطويل للحضارات. لكنه بصفته مؤرخاً سيقتصر على عدم الخلط بين الحصارات والمجتمعات. فالحضارة تغطي وتعني ضمناً فضاءات كرونولوجية أكثر اتساعاً من أية حقيقة اجتماعية، فهي تتغيّر بسرعة أقل من المجتمعات التي تحتضنها أو تفرزها.
ووراء كل مجتمع وكل حضارة نجد معطيات اقتصادية وتكنولوجية وبيولوجية وديموغرافية. وتضغط الظروف المادية والبيولوجية بكل قوة على مصير الحضارات: تزايد عدد البشر أو انخفاضه، الصحة الجيدة أو الصحة المتدهورة، الازدهار الاقتصادي أو التقني أو تراجعه. كلها أشياء تنعكس على البنيان الاجتماعي، فالاقتصاد السياسي بالمعنى الواسع للكلمة هو دراسة كل هذه المشاكل الضخمة.
ويشير بروديل إلى أهمية عدد السكان ومحورية الإنسان في الحضارة كونه الأداة الوحيدة والصانع والمحرك الوحيد لها. ومبدئياً وعملياً، فإن كل زيادة ديموغرافية تيسر ازدهار الحضارات. كما أن الحياة الاقتصادية متقلبة، بعضها يأخذ شكل تقلبات قصيرة وبعضها طويلة. وسوء اتخذ التقلب هذا الاتجاه أو ذاك، فإن الحياة الاقتصادية تفرز الفائض دائماً، وإنفاق تلك الفوائض هو أحد الشروط الضرورية لترف الحضارات ولبعض أشكال الفن.
الحضارات ذهنيات جماعية واستمراريات
يوجد في كل عصر تصوّر معيّن للعالم وللأشياء وذهنية جماعية معيّنة تنشّط كل كتلة المجتمع وتخترقها، وهذه الذهنية التي تملي المواقف وتوجّه الاختيارات وتعمّق الأفكار الما قبلية وتغيّر وجهة حركات المجتمع، وهي أمر حضاري بأتم معنى الكلمة. فهي ليست حوادث أو ظروف تاريخية واجتماعية لعصر معيّن، وإنما هي ثمرة إرث قديم من المعتقدات والخوف والحيرة القديمة اللا واعية في أغلب الأحيان. إنها عدوى كبيرة بذورها غارقة في الماضي وتتناقلها الأجيال. وردود فعل مجتمع على أحداث الساعة لا تخضع إلا بصفة محدودة للمنطق أو حتى المصلحة الأنانية، بل هي تخضع بصورة رئيسة لتلك الهيمنة المبهمة، بما لها من رموز صعبة التفكيك في الغالب، وهي نابعة من اللاوعي الجماعي. إن هذه البنى السيكولوجية والقيم الأساسية هي بالتأكيد ما لا تستطيع الحضارات تمريره بسهولة إلى غيرها، وما يعزلها ويميّزها بعضها عن بعض.
إن الدين هنا هو السمة الأكثر قوة، إذ يتموقع في قلب الحضارات، وهو ماضيها وحاضرها. حتى العالم الغربي الذي تناسى جذوره المسيحية، فإن ثمة تعايش بين الدين والعلمانية والعلم، أو ثمة حوارات لم تنقطع أبداً في ما بينها، خلافاً لما توحي به المظاهر. يقول بروديل إن المسيحية فرضت نفسها بصفتها حقيقة أساسية للحياة الغربية، وتركت بصماتها حتى على الملاحدة.، فالقواعد الأخلاقية والمواقف من الحياة والموت وقيمة العمل ودور المرأة والطفل كلها سلوكيات تبدو أن لا علاقة لها بالشعور المسيحي، لكنها على الرغم من ذلك متولدة عنه. لكن فرادة الحضارة الغربية في رأيه هي في أن نزعة الحضارة الغربية لا تزال منذ تطوّر الفكر الإغريقي هي الارتقاء إلى العقلانية.
من الضروري إدخال التاريخ وقياساته وتفسيراته الأساسية في ذلك الحوار المعقد عن الحضارات. فليس ثمة حضارة راهنة يمكن فهمها فهماً حقيقياً من دون معرفة المسارات التي تم قطعها والقيم القديمة والتجارب المعيشة. فكل حضارة هي ماضٍ وماضٍ معيّن لا يزال حياً، وتبعاً لذلك فإن تاريخ أي حضارة هو البحث، من بين المعطيات القديمة، عن تلك التي لا تزال فاعلة إلى اليوم.
إن كل حضارة تعبّر عن نفسها في المقام الأول بسلسلة من التجلّيات اليسيرة الفهم: مسرحية، معرض رسم، رواج كتاب أو فلسفة، موضة لباس أو اكتشاف علمي أو تقني، وكلها أحداث تبدو مستقلة بعضها عن بعض. وهذه الوقائع الحضارية لا تعمّر إلا قليلاً، وهي مجبولة على التحوّلات العنيدة.
ويعبّر هذا الطابع المتغير عن نفسه بواسطة التتابع نفسه للعصور الأدبية أو الفنية أو الفلسفية، وهي كلها حلقات زمنية منغلقة على نفسها. وتوجد سياقات ثقافية على غرار السياقات الاقتصادية، اي تقلبات طويلة أو مفاجئة، وهي تتابع في أغلب الأحيان مع التعارض العنيف. فكل شيء يتغيّر من عصر إلى آخر، ولكل عصر ألوانه وموضوعاته وحركاته اللا واعية. فللحضارة إيقاعاتها وهي تظهر بمظهر التاريخ ذي الكسوفات التي يقسّمها بروديل إلى قطع متعاقبة وشرائح شبه متنافرة.
إن كل حلقة زمنية تنقسم إلى سلسلة من الأفعال والحركات والأدوار، فالحضارات في نهاية المطاف هي بشر، أي ما لا يحصى من أصناف التمشي والفعل والتحمس والاتزام التي يتعاطاها البشر، وكذلك الانقلاب في المواقف أيضاً. لكن ضمن هذه السلسلة من الأفعال والإنجازات والسير الذاتية، توجد منعرجات أو مفاصل تاريخية تعكسها أحداث أو أبطال، على غرار اكتشاف قانون الجاذبية من قبل نيوتن عام 1687 فقد كان حدثاً بالغ الأهمية، وكذلك عرض مسرحية "لو سيد" Le Cid الفرنسية التي كتبها كورناي عام 1636. تساعد الحلقات الزمنية المتتابعة على فهم المكانة الخاصة التي تحتلها بعض الأحداث والأبطال الاستثنائيين في تاريخ الحضارات.

تفاعل الحضارات
تنفر أي حضارة عادة من تبنّي ملك ثقافي قد يسيء إلى أحد هياكلها العميقة. ويعتبر رفض الاستعارة هذا وتلك العداوات الخفية أشياء نادرة نسيبياً، لكنها تنفذ إلى قلب هذه الحضارة. يقول بروديل: "في كل يوم، تستعير كل حضارة أشياء من جاراتها حتى لو وصل الأمر بها إلى "إعادة تأويل" ما تأخذه عنها وهضمه. وتبدو كل حضارة من الوهلة الأولى وكأنها محط بضائع لا تنفك تتلقى الأخلاط من الأمتعة وترسل أخلاطاً أخرى، إلا أنه يمكن لحضارة أن تقع مراودتها، فترفض بعناد تلك الإضافة الخارجية، وقد نبهنا إلى ذلك: لا توجد حضارة جديرة بهذا الاسم لا تمارس هذه المواقف المزدرية والرافضة. وفي كل مرة، يكون الرفض تتويجاً لسلسة طويلة من التردد والتجاربن يوكون محصلة تفكير معمّق وقرار بطيء، ويتخذ دائماً أهمية قصوى".
إن هذا النشاط المتمثل في الاستقبال أو الرفض الذي تمارسه حضارة إزاء الحضارات الخارجية الأخرى، تمارسه أيضاً ببطء حيال نفسها. وهذا الاختيار هو دائماً اختيار يكون الوعي به محدوداً أو منعدماً، لكن بفضل ذلك الاختيار، تتغيّر الحضارة تدريجياً "بالتخلي" (Se partager) عن جزء من ماضيها، كما يسميّه ميشال فوكو.
يقول بروديل متأثراً بفوكو أو ربما نقلاً عنه: "إن أي حضارة تكشف حقيقتها الشخصية عندما تتخلى عما يعكّر مزاجها من ظلام الأراضي المتاخمة لها وهي الأراضي المعتبرة بعد أجنبية، وتاريخها هو تنقية شخصيتها الجماعية عبر القرون، تلك الشخصية التي تظل تتأرجح مثل اي شخصية فردية، بين مصير واعٍ وواضح ومصير غامض ولا واعٍ يعمل بصفته قاعدة ودافعاً أساسياً للآخر، لكن من دون أن يعلن عن نفسه دائماً".
ومن الأمثلة التي يقدمها عن عمليات "التخلي" أو "شبه التخلي"، تخلي العالم الغربي عن الموت المسيحي كما تصوّره العصر الوسيط، أي مجرد انتقال الكائن المنفي إلى الأرض إلى الحياة الحقيقية في الآخر. لقد أصبح الموت في القرن الخامس عشر "إنسانياً" واصبح يمثل المحنة القصوى للإنسان بصفته فظاعة وتحلّلاً للجسد. وقد وجد الإنسان في هذا المفهوم الجديد للموت مفهوماً جديداً لحياة اكتسبت من جديد معناها وقيمتها الإنسانية في نظره. وقد زال ذلك النوع من الهوس بالموت في القرن التالي، السادس عشر، الذي كان قرن فرحة الحياة.
لم تكن العلاقة بين الحضارات دوماً سلمية، فكل حضارة لها خياراتها الحرة، وظلت العلاقات العنيفة بينها هي القاعدة في الأغلب، وكانت علاقات مأساوية وعديمة الفائدة على المدى الطويل.
ويرى بروديل أن الحضارات استمراريات واستمراريات تاريخية لا تنتهي. وهكذا فإن الحضارة هي الأطول من بين كل التواريخ الطويلة، لكن المؤرخ لا يكتشف هذه الحقيقة مباشرة، إذ هي لا تبرز إلا عقب ملاحظات متتابعة، فالذي يتسلق تتسع رؤيته تاريخياً.

الأزمنة المختلفة للتاريخ
يشتغل التاريخ وفق دراجات ووحدات قياسية مختلفة في الأعم الأغلب، سواء من يوم إلى آخر أو من سنة إلى أخرى، أو على مدار عشرات السنوات في الوقت نفسه، أو على مدى قرون بأكملها.
والمؤرخ يشتغل، بحسب بروديل، على ثلاثة مستويات على الأقل هي:
مستوى أول: هو مستوى التاريخ التقليدي والسرد المعتاد الذي ينتقل بسرعة من حدث إلى الحدث التالي، مثلما يفعل الصحافي. وهكذا يتم التقاط ألف صورة حية فيتشكل منها تاريخ متعدد الألوان وغني بالتقلبات مثل رواية نتعلق بها. لكن هذا التاريخ الذي يطويه النسيان، يتركنا عاجزين عن التقييم أو الفهم.
مستوى ثانٍ: يعكس حلقات ينظر إليها بصفتها وحدات قائمة الذات: الرومانطيقية، الثورة الفرنسية، الثورة الصناعية، الحرب العالمية الثانية. الوحدة القياسية هذه المرة هي عشر سنوات أو عشرون سنة أو خمسون سنة. وبسبب هذه الفترات أو الحلقات أو الأطوار، تجري مقارنة الأحداث بعضها ببعض, وتؤول وتقدم لها تفسيرات.
مستوى ثالث: يتجاوز هذا المستوى هذه الأحداث الطويلة ولا يبقي إلا على الحركات التي تدوم قرناً أو قروناً عدة، فهي تطرح تاريخاً تتسم فيه كل حركة بالبطء وتغطي فضاءات زمنية كبيرة وتاريخاً لا يمكن اختراقه إلا بقفزة كبيرة جداً. فالثورة الفرنسية ليست سوى لحظة أساسية بالتأكيد من ذلك التاريخ الطويل للمصير الثوري الليبرالي والعنيف للعالم الغربي، وفولتير مجرد مرحلة بسيطة من تطوّر الفكر الحر.
إن الحضارات تكشف عن عمرها الطويل أو استمراريتها وهياكلها شبه الغامضة لكنها الأساسية، وذلك بقطع النظر عن الحوادث والتقلبات التي لوّنت مصيرها وتركت عليها بصماتها. وفي نظر بروديل، ليست الحضارة إذاً اقتصاداً معيّناً أو مجتمعاً معيّناً وإنما ما استطاع من بين سلسلة الاقتصاديات وسلسلة المجتمعات التشبث بالحياة والخضوع بصعوبة وببطء للتأثيرات. ولا يمكن النيل من حضارة إلا على امتداد زمن طويل، وذلك بالإمساك بالحبل الذي لا يمكن أن تنتهي من حلّه، أي ما حافظت عليه مجموعة من البشر، ومرّرته لغيرها من جيل إلى آخر بصفة ملكيتها الأكثر قيمة، وذلك من خلال تاريخ متقلب وعاصف في الأعم الأغلب.
إن تاريخ الحضارات هو التاريخ كله ولكن منظوراً إليه من زاوية معيّنة، ومندرجاً ضمن أوسع فضاء كرونولوجي ممكن، ويكون ملائماً لانسجام تاريخي واجتماعي معيّن. وكل تاريخ يكلّف نفسه عناء التفسير العام، عليه العودة الدائمة إلى الواقع الملموس وإلى الأرقام والخرائط والكرونولوجيا الدقيقة، أي إلى عمليات التثبت. ومن الأسلم التعلّق، لفهم معنى حضارة، لا بقواعد لغة الحضارات، وإنما وبشكل خاص بدراسة الحالات الملموسة.

الإسلام والعالم الإسلامي
في الجزء الثاني من الكتاب يستعرض بروديل أهم حضارات العالم غير الأوروبية بدءاً بالإسلام، فالقارة السوداء، فالصين، فالهند، فالهند الصينية، فاليابان. وفي الجزء الثالث يتناول الحضارات الأوروبية ابتداء بأوروبا، فأميركا بشقيها الشمالي والجنوبي، ثم يخصص فصلاً مستقلاً للعالم الإنجليزي ومستعمراته في أنحاء العالم ثم يخصّ روسيا بفصل مستقل. وفي كل هذه الفصول هناك استحضار للتاريخ السحيق والحاضر الراهن وهموم المستقبل لكل حضارة على حدة.
وفي الجزء المتعلق بالإسلام هناك أربعة فصول. الفصل الأول يتحدث عن "ما يعلمنا التاريخ". والفصل الثاني يتحدث عن "ما تعلمنا الجغرافيا". وفي الفصل الثالث يتناول بروديل "عظمة الإسلام وانكفاؤه" الفصل الرابع يبحث في "الإسلام وانبعاثه الراهن".
في الفصول الخاصة بالعالم الإسلامي على غرار بقية فصول الكتاب، ليس هناك تسلسل زمني لفتوحات أو غزوات أو قيام دولة وسقوط أخرى، إذ يأخذ بروديل القارئ في رحلة مشوقة إلى تاريخ كل حضارة على حدة ضمن سياقاتها التاريخية والجغرافية والاقتصادية والاجتماعية بأسلوب إبداعي في كتابة التاريخ.
يقول بروديل: "تستغرق الحضارات زمناً طويلاً لكي تولد وتهيئ مستقرها وتنهض، والاعتقاد بأن الإسلام ولد في ظرف سنوات معدودات مع (النبي) محمد(ص) هو صحيح جداً، لكنه في الوقت نفسه غير صحيح، وفهم هذا الأمر صعب. لقد ولدت المسيحية نفسها مع المسيح وقبل المسيح بكثير، ومن دون محمد والمسيح، لم يكن لتوجد لا المسيحية ولا الإسلام، إلا أن هذين الدينين الجديدين كانا قد اندمجا في جسم الحضارات القائمة قبلهما، وأصبحا يمثلان روحها، وقد أسعفهما الحظ منذ البداي، فتلقيا إرثاً غنياً وماضياً وحاضراً بأكمله ومستقبلاً أيضاً".
فعلى غرار المسيحية التي ورثت الإمبراطورية الرومانية وواصلتها، فقد انتصب الإسلام في بداياته في الشرق الأدنى الذي يعتبر أقدم "مفترق طرق" للبشر والشعوب المتحضرة وربما الأقدم للعالم. وهذا أمر له نتيجة هائلة، وهي أن الحضارة الإسلامية فد تبنت لحسابها الخاص واجبات قديمة تفرضها الجغرافيا السياسية، وأشكالاً مدينية ومؤسسات وعادات وقواعد وطرق قديمة من الاعتقاد والعيش.
ففي الشرق الأدنى العنيد، المعارض للحضور الإغريقي والمعتنق للمسيحية، والذي كانت تعصف به القلاقل الدينية المتواصلة والعنيفة، وجدت الغزوات العربية الأولى(634 – 642م) موطئين مباشرين، سوريا (632م) ومصر(634م) اللتين استقبلتا الدين الجديد وانضمت لهما فارس(642م) بسرعة غير متوقعة. واحتل الفاتحون العرب بسرعة الشرق الأدنى بأكمله، وتجاوزوا حدوده كثيراً من جهة الغرب باستثناء آىسيا الصغرى الجبلية التي دافعت عنها بيزنطة وحمتها.
لقد شيّد الإسلام ديناً بفضل القرآن والأحاديث النبوية وأفعال النبي، وهو دين اتّسم بالبساطة ظهر في وسط مديني في مطة على هامش الجزيرة العربية التي كانت بدائية، بحسب بروديل. ووضعت جزيرة العرب البدوية، وتها المحاربة الاستثنائية في خدمة الإسلام. ويرى بروديل أن دور القبائل العربية يلفت الأنظار إلى الطريقة التي دعم الإسلام، هذه الحضارة التي ستصبح قريبة متأنقة جداً، "بواسطتها تباعاً كل نجاحاته تقريباً بالاعتماد على القوى الحيّة لتلك "الثقافات" المحاربة وتلك الشعوب البدائية التي استوعبها في كل مرة وأدخلها إلى الحضارة".

ما تعلّمنا الجغرافيا
يمسح الإسلام سلسلة من الفضاءات المترابطة في ما بينها، والخاضعة في تخومها لتغيّرات حادة جداً. لذلك فإن تاريخ الإسلام ـ في رأي بروديل ــ ليس تاريخاً هادئاً ولم يكن كذلك، لكن تلك التغيّرات تظل نسبية، إذ تمتع المسرح الإسلامي الشاسع إجمالاً باستقرار ثابتن فهو يبدو وكأنه سلسلة من الحقائق والتغيّرات. إن مناطق الإسلام اليوم التي سيطر عليها دائماً ومنذ زمن بعيد، تظل شاسعة، وهي ليست دائماً غنية، وهي تمتد من المغرب الأقصى والصحراء الأطلسية إلى الصين والجزر الأتدونيسية والفلبين، أو من داكار إلى جاكرتا.
يقول برديل: إن الكاتب أسد باي محق عندما قال "إن الإسلام هو الصحراء"، لكن هذه الصحراء، أو بالأحرى هذه المجموعة من الصحاري تقع من جهة بين ملاحتين وبين امتدادين من الماء المالح بالمتوسط والمحيط الهندي، ومن جهة أخرى بين ثلاث كتل كثيفة إلى حد ما، الشرق الأوسط وأوروباـ وأفريقيا السوداء. إن الإسلام هو قبل كل شيء "قارة انتقالية" تربط بين تلك الفضاءات الواسعة.
لقد كان الإسلام، الحضارة التي تفتقر إلى البشر، مجبراً بالأمس، على توظيف البشر الذين يجدهم في متناول يديه، وكان الافتقار المزمن للبشر شكلاً من أشكال فقره المتأصل. والإسلام ظل مستفيداً مادياً من وضعيته الجغرافية السياسية من عمليات عبور القوافل والتجار والسفن. ولا يمكن تصوّر هذه التحركات التجارية من دون مدن عظيمة، وهي كثيرة في عالم الإسلام، وكانت بمثابة التحركات التي تجعل حركة التنقل الشاسعة هذه ممكنة.

لقد خلقت الدورة الأولى من الغزوات وهي الدورة العربية، إمبراطورية ودولة، لكنها لم تخلق حضارة. ويعتبر بروديل أن ازدهار الإسلام وعظمته يعودان إلى ما بين القرنين الثامن عشر والثاني عشر، وكل الباحثين مجمعون على ذلك، لكن الخلاف يتعلق باللحظة التي بدأ فيها التقهقر. لقد بدأ التراجع الحاسم منذ القرن الثالث عشر، لكن هذا يعني الخلط بين أمرين اثنين جد مختلفين: نهاية هيمنة ونهاية حضارة. من الواضح أن الإسلام فقد أنذاك مركز الريادة، لكن تقهقره الخطير لم يبدأ إلا في القرن الثامن عشر. إن قدر الإسلام هو قدر الكثير من الأمم التي تعتبر أمماً متخلفة اليوم، لأنها تخلفت عن ركب الثورة الصناعية القادرة على جعل العالم يتقدم بالوتيرة نفسها للآلة نفسها. إلا أن الإسلام لم يمت بصفته حضارة، جراء عدم النجاح هذا. "لقد تأخر الإسلام عن أوروبا بقرنين على المستوى المادي فقط، لكن أي قرنين!"، يضيف بروديل.
خاتمة
في "قواعد لغة الحضارات" يشعر القارئ أنه يقرأ لمؤرخ وجغرافي وعالم اجتماع واقتصادي وانثروبولوجي وأديب وراوٍ في نص واحد. لقد أثارت أراؤه جدلاً كبيراً حول مسائل الهويات وخصوصيات كل حضارة في العالم بحيث اعتبره البعض أحد المرجعيات الأساسية في أطروحة صموئيل هنتنغتون حول "صدام الحضارات".
فعلى سبيل المثال يذكر بروديل أن النظام الاداري الدقيق والوحدة الثقافية والهيمنة الحكومية والتطور العلمي لم تؤدِ إلى ثورة صناعية في الصين ولا إلى قيام نظام بورجوازي، نفهم أن ذلك لم يتم بإرادة الحكام، لكن لأن الكثافة السكانية الهائلة لم تبقِ حاجة للاختراع. فقد كان الجهد الإنساني يقوم محل الآلات. ويمكننا أن نقابل من هذه الناحية كثافة الصين السكانية مع ضآلة العديد السكاني في أوروبا. قد تكون هذه الإشارة الديموغرافية أحد امثلة على منهج بروديل التحليلي.

Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

السيرة الذاتية للدكتور هيثم مزاحم

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم