العلاقات الإسلامية - المسيحية - الدكتور رضوان السيد

"كلمة سواء" الأول، الإمام الصدر والحوار
العلاقات الإسلامية المسيحية قراءة في بياناتٍ مشتركة - الدكتور رضوان السيد

قراءة في كتاب: البيانات المسيحية الإسلامية المشتركة، من 1954 إلى 1992 – نصوص مختارة. جمعتها جولييت حداد. إشراف الأب اوغسطين دي بري لاتور والدكتور هشام نشابة – معهد الدراسات الإسلامية المسيحية بجامعة القديس يوسف – دار المشرق – بيروت 1995.



لا يَحَار وعي مثقفي المسلمين اليوم أمام مسألةٍ كما يحار تجاه قضيتين اثنتين: قضية حركات الإسلام السياسي، وقضية العلاقة مع الثقافات والأديان الأخرى وعلى رأسها المسيحية وثقافاتها وكنائسها. تنبَّهت إلى ذلك عندما بدأتُ قبل ثلاث سنوات بالإعداد لأعداد مجلة الاجتهاد الخمسة عن "الحوار المسيحي الإسلامي والعلاقات الإسلامية المسيحية" والتي صدرت بين صيفي العامين 1995 و1996. كما شدتني أغوار تلك العلاقة وجوانبها المعتمة أثناء تحضيري لمحاضراتٍ وندواتٍ عن الجدل الإسلامي المسيحي في المجال العربي قديماً وحديثاً، والتي ألقيتُ بعضها بكلية اللاهوت الكاثوليكي بجامعة سالسبورغ عام 1994، وفي جامعة البلمند مطلع العام 1996.

أما موادّ أعداد الاجتهاد، والبالغة زُهاء الثمانين مادّة من بحثٍ ومقالةٍ وعرضٍ ومراجعة، فقد انتقيتُها من بين حوالي الثلاثمائة مادة تلقيتها من كُتّابٍ عربٍ وأجانب ومسلمين ومسيحيين. وأكاد أقولُ إنّ زُهاء الأربعين مادةً منها كانت تُعالجُ مسألتين: الحروب الصليبية، وجهود التبشير والتنصير بين المسلمين من جانب المسيحيات العالمية في أوروبا وأمريكا وإلى حد أقل من جانب المسيحيين العرب.

وأمّا الجداليات بين المسلمين والمسيحيين في المجال العربي والإسلامي في المئة والخمسين عاماً الأخيرة فيزيد عددُها على الخمسمئة كتاب ورسالة تتوزع على سائر بلدان الوطن العربي، ويختص لبنان بالذات بأعدادٍ لا بأس بها منها استمرت من جانب الطرفين حتى مطلع الثمانينات، بعد ان عادت للازدهار عشية الحرب الاهلية، وفي سنواتها الأولى.

إنّ هذه الأجواء المشحونة، والتي تُلامس الوعي العميق بالذات، والهوية وهمومهما وهواجسهما ومخاوفهما، لا تنمُّ عن استعدادٍ كبيرٍ لدى الجمهور المسلم والمسيحي على حد سواء للانفتاح وتخطي صيغ التعايُش إلى العيش المشترك المتطلع للمشاركة في صنع حاضر العالم، والتأثير في مستقبله. بل إنّ الأمر يتجاوز ذلك إلى إمكانية الحديث عن وعيٍ متأزُّمٍ لدى الطرفين – ولدى المسلمين على الأخصّ – في المجال العربي. لكنْ علينا أن لا نستبقَ تفاصيل المتابعة – وإن يكن إبليسُ في التفاصيل كما يقول المثل – فلنبدأ بفتح سِفْر الحوار، ولنقرأ دلالاته وسياقاته وأصولَهُ، وصولاً إلى مآلاته وحظوظِهِ المستقبلية.

تبدو هذه المقدِّمة شديدة التشاؤم، وبخاصةٍ إذا اخذنا بعين الاعتبار أنَّ العلاقات المسيحية الإسلامية في المجال العربي لم تنقطع أو تتضاءل قديماً أو حديثاً – وقد عبَّرتُ عن ذلك في عنوان ملف العدد الثامن والعشرين من مجلة الاجتهاد فسميّته: العلاقات الإسلامية المسيحية: ثقافة الجدل وثقافة الحياة. كما أنَّ الحوار المسيحي الإسلامي بدأ أيضاً، ونستطيع اليوم من خلال المجموعة الصادرة حديثاً عن معهد الدراسات الإسلامية المسيحية بجامعة القديس يوسف بعنوان "البيانات المسيحية الإسلامية المشتركة من 1954 إلى 1992" (1) أن نتطلع إلى تاريخ لمجريات ذاك الحوار، وأن نصل إلى بعض الاستنتاجات حول حاضره ومستقبله.

تعرض المجموعة مختاراتٍ من بياناتٍ صدرت عن تسعةٍ وعشرين لقاءً بين الخمسينات والتسعينات، من بينها بيانٌ صادرٌ عن مسلمين ومسيحيين لبنانيين التقوا في ظلّ الندوة اللبنانية (1965). أما البيانات الأخرى – فيما عدا وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني – فتّمت بين ممثلين للك نائس الكاثوليكية والبروتستانتية من جهة، وجهات إسلامية رسمية وغير رسمية من جهة ثانية. ومن الواضح أنّ ما تعرضه المجموعة ليس كلّ ما صدر، فهناك ملتقيات ما صدرت عنها بيانات (2) ، كما أنّ اللقاءات مستمرةٌ بعد العام 1992 وقد حضرتُ ستةًً منها في السنوات الأربع الأخيرة، وفاتتني ولا شكّ عشراتٌ تنتهي ببيانات أو تتضمن بحوثاً معمَّقةً مقارنة.

أو البيانات التي تعرضها المجموعة البيانُ الصادر عن المؤتمر الإسلامي المسيحي المنعقد ببحمدون بين 22 و29 نيسان عام 1954، والذي دعت إليه هيئة "الأصدقاء الأميركان للشرق الأوسط" وحضره 74 من رجال الكنيسة ورجال العلم قدموا من 22 بلداً في الشرق والغرب من أجل تشجيع التعاون بين المسيحية والإسلام. وقد انتهى المؤتمر بتأليف لجنة للتعاون الإسلامي – المسيحي، كما أصدر بياناً يمكن تلخيصُ نقاطه بما يلي:

1- أنّ من أسباب الاضطراب في هذا العصر ضعف الاقتناع بالقيم الروحية للأديان مما أدى إلى انتشار الظلم، وقمع القوي للضعيف. لذا يدعو المؤتمرون المؤمنين إلى "مجابهة تيارات الإلحاد والمادية".

2- وصول المؤتمرين إلى اقتناع بوجود أسس إيمانية للتعاون بين المسيحيين والمسلمين.

3- وصول المؤتمرين إلى اقتناع بأنَّ التعاون بين المؤمنين يمكن أن يوصل لتحقيق أهداف الإنسانية في التأخي والتآزُر واحترام حقوق الإنسان.

وقد أوصى الحاضرون بمعالجة مشكلات اللاجئين الفلسطينيين بالعودة وبالتعويض على مَنْ لا يريد العودة، والتزموا بحثّ حكوماتهم والأُمم المتحدة على التصدي لحلّ القضية الفلسطينية.

أما آخر البيانات الواردة في المجموعة: فالبيان الصادر في 26 حزيران 1992 عن اللقاء المنعقد بروما بين المجلس البابوي للحوار بين الأديان، ووفد المجمع الملكي لدراسات الحضارة الإسلامية بالأردن عن "المرأة في المجتمع في نظر الإسلام والمسيحية". نص البيان على ما إيجازه بما يلي:
1- تركيز الإسلام والمسيحية على كرامة الإنسان رجلاً وامرأة، وتساويهما التام في الكرامة الإنسانية.

2- يعتبر المجتمعون أنّ الأسرة هي نواة المجتمع الإنساني، والأبوان هما المسؤولان عن بنائها واستقرارها وقدرتها على أداء رسالتها الكاملة في المجتمع الانساني.

3- إنّ إهتمام الديانتين بدور المرأة في رعاية الأسرة لا يحول دون حقها في ممارسة الأعمال والنشاطات الاجتماعية المختلفة.

4- إنّ هناك ممارسات مخطئة تحط من كرامة المرأة وليس الدين مسؤولاً عنها بل العادات الموروثة.

5- إن هناك دواعي للقلق من بعض إفرازات الحضارة المادية التي تتجلّى في استغلال المرأة بصورة تحط من كرامتها الإنسانية.

6- إنّ هناك قصوراً في التشريعات السائدة المتعلقة بعاملة المرأة لجهة شروط العمل والأجور والتدريب ومراعاة واجبات الأمومة.

7- ضرورة إشاعة الوعي الديني السليم في المجتمع، بما يصحّح المفاهيم السائدة، ويعمّق تأثيرات الدين في النفس الإنسانية.

بين هاتين الوثيقتين اللتين لخصتهما هاهنا حوالي الثلاثين عاماً. والملاحظ أنَّ هناك تطوراً في الموضوعات وفي مناهج المعالجة، لكن التطور المنهجي أكبر وأوسع من التطور المضموني أو الموضوعي. ولكي يكون ما أعنيه واضحاً أشير إلى الوثيقة الثانية الصادرة عن اللجنة المنبثقة عن مؤتمر بحمدون، في الإسكندرية، بتاريخ 15 شباط 1955 – في تلك الوثيقة تشديدٌ على ضرورة تعزيز التفاهم المتبادل بين الديانتين للمساعدة على فهم كل طرفٍ لعقائد وآراء الطرف الآخر. وبعد التأكيد على "القيم الروحية التي يجب إعادة إحيائها في العالم المعاصر لمواجهة المادية والإلحاد والفساد الاجتماعي والروحي" يعود البيان للتأكيد على أهمية "تعزيز الأسرة المبنية على تقديس الله واحترام بني الإنسان" مما يذكر بما ورد في بيان العام 1992 بين الفاتيكان والمجمع الملكي حول المرأة ودورها في الأسرة.

ويمكن القول إنّ موضوعين كبيرين برزا في مجريات الحوار منذ بداياته ثم تطورا وتشعّبا ودَاخَلَتْهما تعديلاتٌ واهتماماتٌ إضافيةٌ غيرت من منهجية المعالجة، لكنها لم تتغيّر كثيراً في المضامين. هذان الموضوعان هما: الإيمان المشترك بالإله الواحد، والتقارب في القيم الأخلاقية أو المنظومة الأخلاقية. ومن الموضوع الأول أو المشترك الأساسي للالتقاء: الإيمان بالإله الواحد، برزت فيما بعد موضوعة النَسَب الإبراهيمي أو الجذع الإبراهيمي المشترك. أمّا الاشتراك في المنظومة الأخلاقية فقد كان الأساس لفرعيات كثيرةٍ في الكرامة الإنسانية والإنماء والسلام والتفاهم العميق بين الشعوب والثقافات.

وكان المؤتمرون في البداية يقيمون ضرورات الحوار على أساس الإيمان المشترك، ثم صار الحوار قيمةً مستقلةً يسعى بمقتضاها كل جانبٍ لفهم الآخر كما يفهم ذاته .. بحيث يتمٌّ النقاش بطريقةٍ يُسهم فيها كل جانبٍ بالتعلم من الآخر على الصعيدين الفكري والروحي. هذه الطريقة في النقاش جعلها ممكنةً، بل أكيدة الأهمية التمازُجُ الشديدُ للجماعات البشرية، واستحالة استغناء الجماعات البشرية عن بعضها، وحلاوة التلاقي في ظل التفاهم القائم على التساوي في القيمة الإنسانية.

والواقع أنّ نقلةً نوعيةً تحققت نتيجة أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني الذي أصدر وثيقة في 21 تشرين الأول 1964، وأخرى في 28 تشرين الثاني 1965 تتعلق أجزاء منهما بالديانات غير المسيحية وبخاصة اليهودية والإسلام. وقد برزت في بيان الفاتيكان فيما يتعلق بالإسلام وبالاحرى فيما يتعلق بالمسلمين نقطتان، الأولى قولُ البيان الفاتيكاني إنّ المسلمين يعبدون الله الواحد الحيّ القيوم الرحيم، ضابط الكل، خالق السماء والأرض، مكلم البشر، وإنهم يجلُّون المسيح كنبيّ .. ويكرّمون أُمِّه مريم العذراء .. وينتظرون يوم الدين، ويؤدون العبادة لله ولا سيما الصلاة والزكاة والصوم. والنقطة الثانية قول البيان إنَّ "تدبير الخلاص يشمل ايضاً أولئك الذين يؤمنون بالخالق، وأولُهُمُ المسلمون الذين يعلنون أنهم على إيمان إيراهيم، ويعبدون معنا الله الواحد، الرحمن الرحيم، الذي يدين الناس في اليوم الآخر ...." (3) .

ومسألة الخلاص او النجاة هذه مسألةٌ شديدة الحساسية في ديانات التوحيد او الديانات الإبراهيمية. إذ تتسم الديانات الثلاث بالذات بطابع الإطلاقية في تأمٌّل الحقيقة، وبالتالي في تحديد سُبل النجاة في الحياتين الدنيا والآخرة. ولذا فإنّ قول الكنيسة الكاثوليكية بإمكانية النجاة أو الخلاص لغير المسيحيين يُعتبر ثورةً في عالم اللاهوت، وفي علاقة الكاثوليكية بالمسلمين والإسلام.

ومع أنّ موقف الفاتيكان هذا لم يصل في مجال التطبيق إلى مستوى منطوق الوثيقة وروحيتها الثورية العارمة، فإنّ تطوراً طرأ على توجهات الكنيسة الكاثوليكية تجاه المسلمين وعلاقاتها ولقاءاتها معهم. وتدل بيانات اللقاءات بين الكاثوليك والمسلمين بعد العام 1965 على رؤيةٍ جديدةٍ تريد وتسعى للتعاون والتواصل في مجال المسائل الايمانية وما اتّصل بها من قضايا الإنسان الكبرى، والقيم الإنسانية المشتركة التي تنضوي تحت لاهوت الأديان، ومن ضمنها قيم الأُسرة، وقضايا الاعتراف بالآخر في الدين والثقافة والعيش والإنسانية.

ولا تميّز البياناتُ المشتركة التي نقرؤها في المجموعة بين الكاثوليك والبروتستانت. لكنني بحكم خبرتي في شؤون الكنائس الحديثة والمعاصرة، أقيمُ تفرقةً تقريبيةً بين الملّفات التي يكون كُلٌّ من الطرفين على استعدادٍ للتداول بشأنها مع المسلمين. وهكذا فإنه في الوقت الذي يتردد فيه البروتستانت في الانفتاح في القضايا اللاهوتية والدينية البحتة، فإنهم أكثر استعداداً من الكاثوليك للتلاقي حول القضايا السياسية التي تهمٌّ المسلمين. لذلك نجد أنه منذ البداية فإنُّ البروتستانت كانوا على استعدادٍ للتقارُب مع العرب والمسلمين في قضية فلسطين، وما اتصل بالمسائل الاقتصادية والسياسية على المستوى العالمي، ورغم وجود مسيحيةٍ صهيونيةٍ، وأُخرى محافظة متشددة، على هامش الكنائس البروتستانتية الكبرى (4).

وتبقى قضايا التطور المنهجي في الحوار والنقاش. فالواقع أنّ لقاءات المسيحيين بالمسلمين تميزت منذ الثمانينات بالاتجاه نحو التركيز على موضوعٍ وعرض المواقف المختلفة أو المتقاربة للطرفين او للاطراف المشاركة في نطاق ذلك الموضوعٍ. مثل موضوع المرأة الذي عرضنا له في لقاء العام 1992، ومثل موضوع العدل في المسيحية والإسلام الذي شاركْتُ في سلسلةٍ من المحاضرات حوله بمركز الحوار المسيحي الإسلامي بحريصا بلبنان عام 1995، صدرت المحاضراتُ التي أُلقيت في كتابٍ عام 1996. ومن الطبيعي أنه في لقاءاتٍ ذات طابع أكاديمي كذلك اللقاء، فإنّ البيانات المشتركة يقلُّ إصدارها، وتغلبُ صيغةُ عرض مواقف المشاركين من خلال المحاضرات أو الكلمات. وقد شهدت كلية العلوم الاجتماعية بالجامعة التونسية منذ منتصف الثمانينات لقاءاتٍ دوريةً عالجت قضايا حيوية تهمٌّ الطرفين المسلم والمسيحي.

يتضح من مجموعة البيانات أنّ الكنائس المسيحية كانت المبادرة في الدعوة للحوار. وفي هذا السياق فإنّ البروتستانت سبقوا الكاثوليك، ثم تساوى الطرفان بعد منتصف الستينات، وتغيَّر موقف الكنيسة الكاثوليكية باتجاه التواصل كما سبق أن ذكرت. ويحضر هذه اللقاءات في العادة من الطرف المسيحي علماء من رجالات الكنيسة، أو من أقسام الديانات والاستشراق بالجامعات الغربية. وقد برزت في الجامعات التابعة للكنائس وغير التابعة معاهد ومراكز ومؤسسات تُعنى بالحوار والعلاقات مع الأديان الأخرى، ومع المسلمين بشكلٍ خاصّ، تُصدر نشراتٍ ومجلات متخصصة بقضايا الحوار مع الإسلام، والدراسات الإسلامية، ويعمل فيها أساتذة يُعنون في حياتهم الاكاديمية بمتابعة قضايا المسلمين والإسلام المعاصر. وللكنائس الكبرى بالغرب اليوم مكاتب اتصال يعملُ فيها مختصٌّون يهتمون بالعلاقات مع الجاليات الإسلامية في بلدانهم، ويشهدون كثيراً من اللقاءات أيضاً مع المسلمين في الوطن العربي والعالم الإسلامي.



ويعمد المسيحيون العرب في السنوات الأخيرة إلى إقامة مراكز ومعاهد ومؤسسات للدراسات الإسلامية المسيحية والعلاقات الإسلامية المسيحية والحوار المسيحي الإسلامي، وفي لبنان ومصر على الخصوص. وقد بدأوا بدعوة المسلمين إلى لقاءاتٍ ومؤتمراتٍ تُصدر بياناتٍ أو تلقى فيها بحوثٌ أكاديمية معمقة.

أمّا في الجانب الإسلامي فإنّ الحاضرين للقاءات نوعان: رجالات المؤسسات والجامعات الإسلامية، وأفرادٌ عُرفوا بالاهتمام العارض بموضوع الحوار مَنْ خلال كتاباتهم، أو صلاتهم بالداعين للقاءات من المسيحيين. وليس بين المسلمين من هو مختصٌّ بالمسيحية القديمة او المعاصرة، كما أنه ليس بينهم من هو معروف بالاهتمام المستمر بمجريات الحوار والعلاقات بحيث يصل ذلك بالمتابعة إلى حدود الاختصاص أو العلم الدقيق. لذلك فإنه عندما ينفضٌّ أيٌّ لقاءٍ من اللقاءات او المؤتمرات، فإنّ حاضريه من المشاركين المسيحيين يعودون إلى مؤسساتهم فيتدارسون ما جرى، وينشرون أخباراً عنه في مجلاتهم الاخبارية او المتخصصة بقضايا الحوار، بينما لا يفعلُ المسلمون شيئاً من ذلك إلاّ في النادر وعلى سبيل الدعاية والإعلان – كأن تنشر مجلة الأزهر مثلاً كلمة شيخ الأزهر في وفد مسيحي دون أن تذكر ما قاله المسيحيون الحاضرون للقاء. ولا حاجة للقول هنا إنّ المسلمين لا يملكون حتى الآن جهات أكاديمية أو دينية معنية بالحوار او العلاقات مع غير المسلمين، كما سبق أن ذكرنا أنه ليس بينهم أفرادٌ لهم عنايةٌ خاصةٌ بالمسألة.
إنّ التفاوت الشاسع في الاهتمام بمسألة الحوار بين الجهات المسيحية والأخرى الإسلامية له أسبابه التاريخية والمستجدّة.

عندما بدأ رجالُ الكنائس يتلمسون وسائل وطرقاً للالتقاء بالمسلمين على قدم المساواة، ومحاورتهم، كانت هناك شكوك التبشير القوية، التبشير الذي بدأ قبل أكثر من قرنين، ورغم أنه لم يؤثر كثيراً في المسلمين، بل قسّم الكنائس العربية والمشرقية العريقة وحسب. لكن برزت ثقافةٌ جديدةٌ تحت لَبوس الحداثة عبر مدارس وجامعات الإرساليات، انضوى في طياتها مختلف المسيحيات العربية مستفيدةً من الوسائل التربوية الحديثة، ومن وسائل الإعلام. ورغم أنّ مسيحية الحداثة كانت أوضح في المدارس لدى الكاثوليك منها لدى البروتستانت، لكن الأساس واحدٌ بمعنى أنّ العلمانية الغربية التي ما كانت بشوشةً تجاه المسيحية في بلدانها الأصلية، احتضنتها في بلدان المستعمرات والانتداب.

وجاءت الحرب الباردة أواخر الأربعينات، والإشكاليات ما تزال قائمة، والحساسية تجاه الاستعمار وبناته شديدة التوهٌّج، وتقدمت الكنائسُ البروتستانتية ثم الكاثوليكية في تناغُم مع السياسيين الغربيين لتحاول عن طريق محاورة المسلمين بناء جبهةٍ للايمان في وجه الإلحاد، كما يبدو من البيان الأول في المجموعة التي استعرضناها. وطبيعيٌّ مع عمق الشكوك والجراح، أن يتردد المسلمون في الاستجابة، وأن تكون تحفظاتهم كثيرة، وأن يكونوا شديدي الحذر في الموافقة على البيانات التي يُراد منهم توقيفُها ولا تذكر مجموعة البيانات طبعاً خلفيات تلك الأمور وردود الأفعال تجاهها. فقد ناضل المشاركون من المسلمين لإدخال الموضوعات السياسية وعلى رأسها قضية فلسطين ضمن موضوعات اللقاء والحوار. وسارع بعضهم إلى كتابة مقالاتٍ حول أولويات العداء وأنها ليست الإلحاد ولا الاتحاد السوفياتي، بل الصهاينة وأولئك الذي أعانوهم على اغتصاب فلسطين.

وتغير الموقف في الستينات والسبعينات، وما عادت الشكوك حول مسائل التبشير والارتباط بالاستعمال والحرب الباردة مؤثرة في الأوساط الثقافية الإسلامية الجادّة، لكن طرأ عاملٌ جديدٌ كان وما يزال عائقاً حقيقياً يتعلق بتطورات العقود الثلاثة الأخيرة داخل المجتمعات الإسلامية. فَقَد برزت حركات الصحوة الإسلامية، هي حركات هويةٍ وانتماءٍ وخوفٍ على الذات من الآخر، ومن فئاتٍ داخل المجتمع الإسلامي نفسه (5) . وطبيعي في ظل الانكماشية المسيطرة في أوساط العامّة والمقسَّمة للنُخب العربية والإسلامية باتجاهاتٍ متعاكسة ومتصارعة في الثقافة والسياسة أن لا يكون هناك توجهٌ واسعٌ ورحبٌ ومنفتحٌ على التواصل، وعلى تطوير أفكار وآليات للمشاركة في حضارة العالم، وثقافات العصر، وحوار الأديان والثقافات.

أين الحوار الإسلامي المسيحي اليوم؟ وما هي مصائره أو ما هو مستقبله؟
سبق أن ذكرتُ بياناً لمسلمين ومسيحيين من لبنان، اجتمعوا في بيروت، في تموز 1965 تحت مظلة "الندوة اللبنانية" التي كان ينسق أعمالها آنذاك الأستاذ ميشال أسمر، والتي كانت قد نظّمت سلسلةً من المحاضرات بعنوان "المسيحية والإسلام" شارك فيها عدةُ أساتذة من الطرفين. تفوح من البيان روائح إرادة التوادّ والتواصل والاعتراف التي أشاعتها وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني. ويذكر المجتمعون أنهم سيسعون لإنشاء معهد جامعي عالٍ للدراسات الدينية المقارنة. وطبعاً لم يحدث ذلك. الذي حدث ظهور ثلاثة معاهد ومراكز للدراسات الإسلامية المسيحية بالجامعة اليسوعية، والبلمند، وحريصا.

وفي العام 1993 انبثقت عن القمة الروحية المسيحية بلبنان لجنةٌ وطنيةٌ للحوار (6)، أصدرت وثيقة جامعة أواخر العام 1995، عالجت فيها الإشكاليات اللبنانية السياسية والثقافية بوضوحٍ وصراحة، وبروحيةٍ وفاقيةٍ توفيقية. ثم ما لبث بيان السينودس بروما أن عكّر أجواء الوفاق في السياسة كما في الثقافة (7) .

بدأتُ بذكر المبادرات الحوارية على المستوى اللبناني لتعددية المجتمع اللبناني الدينية، ولأنه البيئة الأولى العربية التي بدأ فيها الحوار أو التواصل مطلع الخمسينات. وكما بدا من العرض الموجز هذا فإنّ العلاقات الحوارية بين المسلمين والمسيحيين علاقاتٌ هشَّةٌ او تابعةٌ للظروف السياسية التي تسود الجوَّ الداخليَّ، والوضع الإقليمي. ولذا فلا يمكن اتخاذُها دليلاً اميناً للعلاقات الإسلامية المسيحية أو مصائر الحوار بين المسلمين والمسيحيين. ذلك أنه في حالة تحسُّنه او فعاليته فإنٌ ذلك لا يدلٌّ على أكثر من تحسٌّن البيئة الداخلية بين أطراف النظام السياسي اللبناني. لذا قد يكون من المُناسب العودة لاستنطاق البيانات المشتركة او مساءلتها على فرض أنها أكثر تعبيراً عن مجريات الحوار والعلاقات ومسائلها.

لكن يكون علينا قبل بحث المستوى الثاني هذا، الملاحظة أنه لم تستتبَّ بيئاتٌ للحوار بين المسلمين والمسيحيين العرب فيما عدا المحاولات اللبنانية الخجولة وجهود مجلس كنائس الشرق الأوسط (وهو مؤسسةٌ فرعيةٌ من مؤسسات مجلس الكنائس العالمي) لتنظيم لقاءات بين المسلمين والمسيحيين العرب، التي كان آخرها اللقاء الذي انعقد ببيروت حول القدس. وقد امسك المسيحيون العربُ أيضاً بزمام المبادرة عندما عمدوا في السنوات الأخيرة لإقامة مراكز للحوار والعلاقات والدراسات المقارنة كما سبق أن ذكرتُ.

وبالعودة للبيانات المشتركة نلاحظُ أنَّ هناك تطوراً إيجابياً من الجانبين. من الجانب المسيحي هناك الاعترافُ الخجول ثم الواضح والاتجاه القاصر للنِدّيّة والتآلف والانفتاح، وهناك أيضاً التطور المنهجي المنصبّ على معالجة مواضيع محددة بطرائق أكاديمية مقارنة، وعدم الاكتفاء ببيانات النوايا الحسنة. ثم هناك بعد هذا وذاك أنّ المبادرة ما تزال في أيدي رجالات الكنائس والمختصين الغربيين: فهم الذين أقاموا ويقيمون مراكز الأبحاث عن الإسلام، ويصدرون المجلات المتخصصة في شؤونه، كما أنهم هم الذين يدعون للمؤتمرات واللقاءات وينفقون عليها.

أما من جانب المسلمين، فأنهم اليوم أكثر إيجابيةً تجاه التلاقي والتحاور منهم قبل ثلاثين أو عشرين عاماً. ثم إنّ جهاتٍ منهم صارت تقبل أن تناقش في موضوعاتٍ ما كانت تتقبل النقاش فيها في السابق مثل قضية المرأة في استقلالٍ عن مسألة الأسرة، ومثل إعطاء أولوية للتضامن الوطني الداخلي على التدقيقات الفقهية والشعائرية، ومثل الاتجاه في القضية الأساسية: قضية وحدة الدين، إلى التأكيد على الأصل الإبراهيمي للديانات الثلاث.

ويبقى المطلوب كثيراً وكبيراً، وبعضُه لا يمكن الوصول إليه إلاّ بتغير المزاج العام للأمة وبروز ظروف للخروج من المأزق الثقافي، أو مصيدة الهوية المأزومة.

هناك الحاجة للخروج من الإطلاقية أو الخروج عليها عبر استلهام للقرآن واستيعابٍ وتجاوزٍ للتراث الفقهي والكلامي الإسلامي.

وهنا ضرورةُ الاتجاه لاستحداث المؤسسات والجهات التي تُعنى بالتعريف بالحضارات والأديان الاخرى، وتخريج متخصصين فيها، ومتابعين للتطورات والاتجاهات العالمية في الثقافة وتقنياتها.
وهناك أخيراً ضرورات الالتفات إلى الوضع المسيحي العربي في خصوصياته، ليس من أجل التفرقة بينه وبين العالم الاوسع، بل من أجل تدارُسِ أمورنا بشيءٍ من العمق والتأنّي، والاتجاه معاً وبمبادراتٍ وأفكارٍ مشتركةٍ من جانبنا نحن المجموعة العربية للتحادث مع المسلمين والمسيحيين الآخرين، ومع العالم.

_____________________
(1) هناك مراجعة مطوّلة لمضامين مجموعة البيانات المسيحية – الإسلامية المشتركة من 1954 إلى 1992 – بمجلة الاجتهاد، م 21 –22، 1996، ص 253 – 367.
(2) اوردت السيدة جوليت حداد التي اختارت المجموعة ثبتاً شاملاً باللقاءات في آخرها، شمل ايضاً تلك التي لم تصدر عنها بيانات كما اوردت تصنيفاً للموضوعات.
(3) قارن بأجزاء من البيان او الوثيقة في" البيانات المسيحية الإسلامية المشتركة، 1995، ص 27 – 30، وعادل تيودور خوري: الفاتيكان والحوار الإسلامي المسيحي/ بمجلة الاجتهاد، م 31 – 32، 1996 ص 39-52.
(4) قارن بمراجعتي لكتاب هوك عن تطور موقف اللاهوت البرونستانثي من الإسلام، في الاجتهاد، م. 3، 1996 ص 219 –226. وانظر مقالة باسيه: تصورات بروتستانتية جديدة حول الإسلام، في الاجتهاد، م31 – 32، 1996، ص 53 – 66.
(5) قارن عن هذه الانكماشية عرض هيثم مزاحم لكتاب السيد الشاهد في مجلة الاجتهاد، م. 3 – 32، 1996، ص، 289 – 298، ومقالتي: الفكر الإسلامي والحريات الدينية، بمجلة الاجتهاد، م3، 1996، ص 13 – 28.
(6) قارن بنصّ وثيقة اللجنة للحوار، في مجلة الاجتهاد م 31 – 32، 1996، ص 279 – 286.
(7) قارن بدراسات عنه في مجلة الاجتهاد، م.3، 21 – 32، 1996.

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

السيرة الذاتية للدكتور هيثم مزاحم

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم