في معنى الثورة

  د. هيثم مزاحم

كلمة ثورة تعني في الأصل أمراً مختلفاً باللغتين العربية واللاتينية. فمصدر كلمة "ثورة" في اللغة العربية هو فعل (ثار – يثور) ومعناه غضب وهاج ومنها اشتقاق اسم الثور، ذكر البقرة. فقد استخدم العرب إذاً كلمة ثورة بمعنى الغضب والهياج، ولم تستخدم الكلمة كمصطلح سياسي واجتماعي بمعنى التغيير الجذري والانقلاب والتمرد وتغيير النظام إلا في العصر الحديث. واستخدم العرب كلمة الخروج للتعبير عن التمرد أو الثورة على الحاكم والنظام القائم. أما استخدام كلمة ثورة باللغة اللاتينية Revolution كمصطلح سياسي واجتماعي وعلمي بمعنى التغيير الجذري والتحوّل فهو حديث أيضاً. أصل الكلمة نشأ في علم الفلك واستخدم على سبيل التشبيه في السياسة. وكانت كلمة ثورة Revolution في الأصل مصطلحاً فلكياً اكتسب أهميته المتزايدة من خلال العالم الفلكي نيكولاس كوبرنيكوس. المصطلح يظهر بوضوح الحركة الدائرية للنجوم، وبما أن ذلك هو خارج تأثير الإنسان، وبالنتيجة فهو لا يقاوم. الكلمة لا تشير إلى العنف، بل تشير إلى حركة دائرية متكررة. وعندما نقلت الكلمة إلى المجال السياسي، كان معناها تعاقب الحكومات والدول في دورة لا يمكن للبشر تبديلها وتغييرها.لا بدّ من العودة إلى اللحظة الأولى التي استخدمت فيه كلمة "ثورة" بهذا الإسم.


 الصورة: ثورة البحرين التي قمعت.

في 14 يوليو 1789 سقط سجن الباستيل في باريس. وحين سمع الملك الفرنسي لويس السادس عشر من رسوله ليانكورت بسقوط الباستيل وتحرير بضعة سجناء منه، وتمرد القوات الملكية قبل وقوع الهجوم الشعبي، قال الملك في وجه رسوله "إنه تمرد"، فصححه ليانكورت قائلاً: "كلا يا صاحب الجلالة، إنها ثورة!" حين قال لويس السادس عشر إن اقتحام الباستيل هو تمرد، كان يؤكد على سلطته وعلى الوسائل المختلفة بين يديه لمواجهة المؤامرة والتحدّي الواقع على سلطانه.

ليس ثمة تعريف واحد للثورة. يقول الباحث والمؤرخ الأميركي كرين برينتن في كتابه "تشريح الثورة" إن الثورة من الكلمات التي تتصف بالغموض، وقائمة الأحداث والأفعال المرتبطة بهذه الكلمة غير محدودة، فهناك الثورة الفرنسية الكبرى، والثورة الأميركية، والثورة الصناعية، والثورة في هاييتي، وثورة اجتماعية، وثورة السود في أميركا، وثورة في تفكيرنا، وثورة في صناعة السيارات الخ... أي أن كلمة الثورة صارت مرادفاً لكلمة "تغيير" ربما مع الإيحاء بأن هذا التغيير مفاجئ أو لافت للنظر. ويعرّف برينتن الثورة بالاستبدال المفاجئ والعنيف للفئة الحاكمة بفئة أخرى لم يكن لها نصيب أنذاك من إدارة الدولة والحكم، وذلك عبر انتفاضة عنيفة أو انقلاب أو عصيان مسلح أو ....
ويتساءل برينتن إن كان يمكن إطلاق تسمية الثورة على التغيير دون اللجوء إلى العنف. الباحث آرثر باور عرّف الثورات في بداية القرن العشرين بأنها المساعي الناجحة أو غير الناجحة التي تهدف إلى إيجاد تغييرات في بنية المجتمع عن طريق استخدام القوة والعنف. التعريف الذي يتبناه علم الاجتماع لمصطلح الثورة هو أنها تغيير جذري أساسي وعميق في المجتمع وبناه الاجتماعية، خصوصاً حين يكون فجائياً ومصحوباً بالعنف. 
أما التعريف السياسي فهو أن الثورة تعني تغيير النظام السياسي الحاكم ورموزه. وإذا جمعنا بين التعريفين فيمكن الخروج بتعريف أشمل هو: "الثورة تغيير جذري غير سلمي للنظام السياسي ورموزه وبناه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهذا التغيير يكون عادة فجائياً ومصحوباً بالعنف".




الصورة: المفكر الإيراني علي شريعتي.
يعرّف المفكر الإيراني الثوري علي شريعتي الثورة بأنه "فعل أكثرية الجماهير على شكل تجلّي إرادة المجتمع حين يروم تعيين السلطة والمسؤولية على أرضه".المفهوم الحديث للثورة، بحسب الباحثة الألمانية الأميركية حنة أرندت، يرتبط "ارتباطاً لا انفصام له بالفكرة التي تقول إن مسار التاريخ قد بدأ من جديد فجأة، وبأن قصة جديدة تماماً، قصة لم تروَ سابقاً ولم تعرف قط، هي على وشك أن تظهر". 


الصورة: الثورة التونسية التي أشعلت "الربيع العربي"
هذا المفهوم لم يكن معروفاً قبل اندلاع الثورتين الفرنسية والأميركية في نهاية القرن الثامن عشر. أما عقدة هذه الحكاية الجديدة فهو ظهور الحرية. وقد عبّر عن ذلك أحد منظري الثورة الفرنسية، جان كوندورسيه، بقوله: إن كلمة ثورة "لا تنطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية". وترفض أرندت إمكانية تشبيه الثورات ــ بحسب تعريف أفلاطون لها ــ بأنها تحوّل شبه طبيعي في شكل من أشكال الحكومة إلى شكل آخر. فالثورة ليست مجرّد تغيير، بل هي بداية جديدة لتاريخ لم يكن معروفاً قبل الثورتين الأميركية والفرنسية. كانت العصور القديمة على معرفة بالتغيير السياسي والعنف الذي يصاحب التغيير، لكنها لم تكن ترى أن هذا التغيير والعنف من شأنهما أن يأتيا بشيء جديد تماماً. 

وترى أرندت أن الشيء الحديث، والمميّز والجديد في الثورتين الأميركية والفرنسية هو "ظهور الحرية". وهي تفرّق بين "الحرية" و"التحرر". فهما ليسا مثل بعضهما. فالتحرّر (liberty) قد يكون هو شرط الحرية (Freedom)، ولكنه لا يقود إليها آلياً. والحرية المقصودة هي الحرية السياسية. فالحرية لا تعني سوى التحرّر من الكبح، أي القدرة على التنقل والتجمع للمطالبة بالحقوق، والتحرّر من الحاجة والخوف. إن كل هذه الحريات هي نتائج للتحرّر، لكنها ليست المحتوى الحقيقي للحرية، والذي هو المشاركة في الشؤون العامة أو الدخول في الميدان العام. والثورة هدفت إلى ضمان الحقوق المدنية وكذلك إلى التحرّر من الحكومات التي تجاوزت سلطاتها وانتهكت الحقوق القديمة والثابتة.

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

السيرة الذاتية للدكتور هيثم مزاحم

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم