كيف تحوّل الحركات الثورية المحبط إلى إرهابي؟



د. هيثم مزاحم      



الصورة: الباحث الأميركي إيريك هوفر

نشر الباحث الأميركي إيريك هوفر كتاباً عام 1951 بعنوان "المؤمن الصادق... أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية"، عرض فيه الخصائص التي تشترك فيها الحركات الجماهيرية، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو قومية، على الرغم من الاختلافات في ما بينها. فالحركات الجماهيرية تولّد في نفوس أتباعها استعداداً للموت وانحيازاً للعمل الجماعي، وجميعها تولّد الحماسة والرغبة بالكراهية وعدم التسامح، وجميعها قادرة على تفجير طاقات قوية من الحراك في بعض مناحي الحياة، وجميعها تتطلب من أتباعها الإيمان الأعمى والولاء المطلق، وجميعها تستقطب أتباعها من النماذج البشرية نفسها، وتستميل الأنماط والعقول نفسها. كما وتتشابه الحركات الجماهيرية في إخلاصها وإيمانها وسعيها إلى السلطة، وفي وحدتها واستعدادها للتضحية.
إذاً التطرف - بحسب إيريك هوفر - واحد وذو طبيعة واحدة سواء أكان تطرفاً دينياً أو قومياً أو أيديولوجياً، وهو يفترض أن الإحباط في حد ذاته يكفي لتوليد معظم خصائص "المؤمن الصادق"، وهي عبارة تعني هنا "المنخرط في حركة جماهيرية بإخلاص وإيمان مطلق مهما كانت طبيعة هذه الحركة"، حيث أن الأسلوب الفاعل في استقطاب الأتباع للحركة يعتمد أساساً على تشجيع النزعات والاتجاهات التي تملأ عقل المحبط.
الكتاب لم يحظ بقدر كبير من الانتشار، إلا أن فيه تكثيفاً للأضواء على الكثير من النقاط التي تتعلق بمرتكزات الإرهاب، وبتعبير أوضح في هذا الكتاب إجابة عن سؤال مهم، وهو: لماذا يصبح الإرهابي إرهابياً؟ – كما يرى المترجم غازي القصيبي – الذي يقول: "رجعت الى عدد من المصادر، وبحثت الأمر مع عدد من الخبراء، واتضح لي أنه على الرغم من وجود كم هائل من المعلومات عن الإرهاب، تنظيماته وقادته وأساليبه وأدبياته وتمويله، إلا أنه لا توجد كتابات تضيء عقل الإرهابي من الداخل، وتتيح لنا فرصة التعرّف على هذا العالم العجيب المخيف". ويضيف: "ثم شاءت المصادفة أن أتعرف على هذا الكتاب، فوجئت بأنني عثرت، أخيراً، على ضالتي". ويعتبر القصيبي أن الإرهاب وليد التطرّف وهذا الكتاب معني بالتطرّف: جذوره وبذوره. فالمعادلة التي يعرضها الكاتب بسيطة ومقنعة في الوقت ذاته، وهي تبدأ بالعقل المحبط. حين يرى الإنسان عيباً في كل ما حوله ومن حوله، وينسب مشاكله إلى فساد عالمه، ويتوق إلى التخلّص من نفسه المحبطة وصهرها في كيان نقي جديد. وهنا يجيء دور الجماعة الثورية الراديكالية التي تستغل ما ينوء به المحبط من مرارة وكراهية وحقد، فتسمعه ما يشتهي أن يسمع، وتتعاطف مع ظلاماته، وتقوده إلى الكيان الجديد الذي طالما حنّ إلى الانصهار فيه. من هذا اللقاء الحاسم بين عقلية الفرد المحبط الضائع وبين عقلية القائد الإجرامي ينشأ التطرف، ومن التطرف ينشأ الإرهاب".
ويرى القصيبي أنه يجب على الدول العربية "أن تمتلئ بالفرص وتزدهر بالأنشطة، وتبيح مؤسسات المجتمع المدني النشطة، على نحو يقضي على الإحباط بين الشباب، أو على جزء كبير منه، فبزوال الإحباط يزول التطرف، وبزوال التطرف ينتهي الإرهاب".
أما المؤلف هوفر فيؤكد أن الحركات الجماهيرية كافة، سواء أكانت دينية أم اجتماعية أم قومية متماثلة، وتشترك في صفات رئيسة تؤسس بينها نوعاً من الشبه العائلي. وعلى الرغم من أن ثمة فروقاً واضحة بين المسيحي المتطرف، والمسلم المتطرف، والقومي المتطرف، والشيوعي المتطرف والنازي المتطرف، إلا أنه يبقى صحيحاً أن التطرف الذي حرّك هؤلاء كلهم هو تطرف ذو طبيعة واحدة. وتصدق هذه الملاحظة على القوة التي تدفعهم إلى التوسّع ومحاولة السيطرة على العالم. فثمة درجة من التماثل بين هذه الجماعات تتجلى في إخلاصها للحركة، وفي إيمانها، وفي سعيها إلى السلطة، وفي وحدتها، وفي استعدادها للتضحية بالنفس.
يقول هوفر إن الحركة الجماهيرية التي يصوغها ويهيمن عليها "المؤمنون الصادقون" مهما كانت أهدافها الأصلية نبيلة، ومهما كانت النتائج التي حققتها جيدة، تبدو في مرحلتها الأولى غير جذابة، إن لم نقل شريرة، والمتطرف الذي يطبع هذه المرحلة بطابعه هو نموذج إنساني لا يثير التعاطف، إنه رجل قاس، معتد برأيه.
وتتميّز المرحلة النشطة الدعوية للحركة الجماهيرية بسيطرة "المؤمن الصادق"، الرجل صاحب الإيمان المتطرف المستعد للتضحية بنفسه في سبيل القضية المقدسة. ويحاول هوفر تحليل البذور والجذور التي تغذي طبيعة هذا الرجل، مستعيناً في تحليله بفرضية محددة، انطلاقاً من الحقيقة التي تقول: "إن المحبطين يشكلون غالبية الأتباع الجدد في الحركات الجماهيرية، وإنهم ينضمون بإرادتهم الحرة". فيفترض هوفر بأن الإحباط في حد ذاته، ومن دون دعوة أو محاولة للاستقطاب من الخارج، يكفي لتوليد معظم خصائص "المؤمن الصادق". والأسلوب الفاعل في استقطاب الأتباع للحركة يعتمد أساساً على تشجيع النزاعات والاتجاهات التي تملأ عقل المحبط.



جاذبية الحركات الجماهيرية: الرغبة في التغيير
يقول هوفر إن الذين ينضمون إلى حركة ثورية صاعدة أو حركة دينية أو قومية متطرفة يتطلعون إلى تغيير مفاجئ كبير في أوضاعهم المعيشية، وعندما تتقدم فرص تطوير الذات، أو لا يسمح لها بالعمل كقوة محفّزة يصبح من الضروري إيجاد مصادر بديلة للحماسة، وهنا تكون الحركات الجماهيرية (دينية أو ثورية أو قومية) عاملاً لتوليد الحماسة العامة. يقول الفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو (1817 ـــ 1862): "عندما يشكو المرء شيئاً يحول بينه وبين القيام بواجباته حتى عندما يكون ألماً في أمعائه .. فإنه يبادر إلى محاولة إصلاح العالم".
يرى هوفر أن الفاشلين ينزعون إلى تحميل العالم جريرة فشلهم، وأن عدم الرضا في حد ذاته لا يخلق دافعاً للرغبة في التغيير، ولكن يجب أن تتضافر معه عوامل أخرى، وأحد هذه العوامل هو الإحساس بالقوة، فالذين يخافون من محيطهم لا يفكرون في التغيير مهما كان وضعهم بائساً. أما الأشخاص الذين يندفعون لإحداث تغييرات واسعة فإنهم يشعرون بأنهم يملكون قوة لا تقهر. فالذين يشعرون بالتذمر من غير أن يكونوا فقراء فقراً مدقعاً وأن يكون لديهم شعور باقتناعهم العقيدة الصحيحة أو اتباع الزعيم الملهم أو اعتناق أساليب جديدة في العمل الثوري سيصبحون قوة لا تقهر، ويجب أن تكون لديهم تطلّعات جامحة إلى المنجزات التي ستأتي مع المستقبل، وفي النهاية يجب أن يكونوا جاهلين جهلاً تاماً بالعقبات التي ستعترض طريقهم. أما المجرّبون وذوو الخبرة فيأتي دورهم في مرحلة لاحقة، ولا ينضم هؤلاء إلى الحركة الجماهيرية إلا بعد التحقّق من نجاحها. ويلاحظ هوفر أنه يصعب على الذين يعتقدون أن حياتهم فسدت أن يستهويهم تطوير أنفسهم مهما كان احتمال حصولهم على فرص أفضل، فلا شيء ينطلق من النفس التي يكرهونها يمكن أن يكون جيداً أو نبيلاً، وشوقهم العميق إلى حياة جديدة، ومعنى جديد لقيم الحياة لا يتحقق إلا بانتماء إلى قضية "مقدسة" (من وجهة نظرهم)، والتماهي مع جهود الحركة ومنجزاتها ومستقبلها يمنحهم الشعور بالكرامة والثقة.
وتعتمد قوة الحركة الجماهيرية وحيويتها  - بحسب هوفر - على قدرتها على تلبية رغبة أتباعها في محو الذات، وعندما تبدأ حركة جماهيرية في اجتذاب أناس لا تهمهم سوى مصالحهم الذاتية فمعنى هذا أنها لم تعد معنية بإيجاد عالم جديد، بل بالحفاظ على الأوضاع الراهنة وحمايتها. يقول قائد إحدى الحركات الجماهيرية المتطرفة: "كلما زادت الوظائف والمناصب التي تقدمها الحركة؛ انخفض مستوى الأتباع الذين ينضمون إليها، وعندما يحدث هذا تكون قد انتهت". فالإيمان بقضية "مقدسة" هو محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقدناه بأنفسنا، وكلما استحال على الإنسان أن يدعي التفوّق لنفسه كان أسهل عليه أن يدعي التفوّق لأمته أو دينه أو عرقه أو قضيته المقدسة، وينزع الناس إلى الاهتمام بشؤونهم الخاصة عندما تكون جديرة بالاهتمام، وعندما لا يكون لديهم شأن خاص حقيقي يهتمون بشؤون الآخرين الخاصة، ويعبّرون عن اهتمامهم هذا بالغيبة والتجسس والفضول. والاعتقاد بالواجب المقدس تجاه الآخرين كثيراً ما يكون طوق النجاة لإنقاذ الذات من الغرق، وعندما نمد يدنا نحو الآخرين فنحن في حقيقة الأمر نبحث عن يد تنتشلنا، وعندما تشغلنا واجباتنا المقدسة نهمل حياتنا ونتركها خاوية بلا معنى، وما يجذب الناس إلى حركة جماهيرية هو أنها تقدم بديلاً للأمل الفردي الخائب، والعاطلون ينزعون إلى اتباع الذين يبيعونهم الأمل قبل اتباع الذين يقدمون لهم العون، فالأمل هو السبيل الوحيد لإدخال القناعة والرضا لدى المحبطين.


التبادلية بين الحركات الجماهيرية
عندما يصبح الناس جاهزين للانضمام إلى حركة جماهيرية فإنهم - في اعتقاد الباحث هوفر- يصبحون عادة جاهزين للالتحاق بأية حركة فاعلة، ويبدو من السهل على الحركات الجماهيرية أن تستقطب أتباع حركات أخرى تبدو مختلفة عنها أو متناقضة معها، فاليساريون المتطرفون يتحوّلون إلى يمينيين متطرفين، والعكس صحيح. فجميع الحركات الجماهيرية متنافسة في ما بينها، وبوسع الحركة أن تحوّل نفسها بسهولة إلى حركة أخرى، فيمكن للحركة الدينية أن تتحوّل إلى ثورة اجتماعية أو حركة قومية، كما أنه يمكن للحركة الثورية الاجتماعية أن تتحوّل إلى قومية متطرفة أو إلى حركة دينية، ويمكن للحركة القومية أن تتحوّل إلى ثورة اجتماعية أو إلى حركة دينية. فكانت القومية اليابانية المتطرفة ذات طابع ديني، وكان لحركات الإصلاح البروتستانتي جانب ثوري عبّر عن نفسه في حركات تمرد الفلاحين، وكان لها أيضاّ جانب قومي، وتمثل الصهيونية حركة قومية وثورة اجتماعية وحركة دينية أيضاّ.

 الأتباع المتوقعون
يحدد هوفر - وفق القواعد السابقة - فئات الأتباع المتوقعين للحركات الجماهيرية، وهي تقوم على عواتق المتذمرين والمنبوذين، وعلى الرغم من أن هؤلاء يوجدون في كل مجالات الحياة إلا أنهم يوجدون بكثرة في المجالات التالية: الفقراء، والعاجزون عن التأقلم، والمنبوذون، والأقليات، والمراهقون، وشديدو الطموح، والواقعون تحت تأثير رذيلة، والعاجزون جسدياً أو عقلياً، والمفرطون في الأنانية، ومرتكبو المعاصي.
يناقش الباحث كلاً من هذه الفئات في فصل من فصول كتابه لكنه يخصّ المؤلف الفقراء من بين هذه الفئات الإحدى عشرة بأفكار وملاحظات كثيرة، فيوضح أن الفقر وحده لا يكفي لتشكيل الإحباط المؤدي للانضمام إلى الحركات الجماهيرية، ولكن محدثي الفقر الذين أضاعوا مكتسباتهم هم الذين يسارعون إلى الالتحاق بأية حركة جماهيرية صاعدة، أي الفقر المؤدي إلى التذمر والإحباط وليس كل فقر، بل الفقر الناشئ عن فقدان المكاسب، أو الفقراء المتطلّعين إلى الوعود. فهناك أمل يشجّع على الصبر، وأمل يشجّع على الثورة.
وإذا اجتمعت الحرية مع الإحباط تشكلت أكثر البيئات صلاحية لنمو الحركات الجماهيرية. يقول أرنيست رينان: "المتطرفون يخافون الحرية أكثر من الاضطهاد، وسبب الثورة في مجتمع ديكتاتوري هو تفكك الديكتاتورية وليس الطغيان". أما الفقراء المنتمون إلى مجموعة مترابطة (قبيلة أو عائلة أو فئة عرقية أو دينية) فلا يشعرون بالإحباط، ولا برغبة في الانضمام إلى حركة جماهيرية، فالمرشح الأمثل للجماعات الجماهيرية هو الفرد الذي يقف وحيداً من دون جماعة متماسكة، ذلك أن ثمة تناقضاً بين الترابط الأسري والحركات الجماهيرية. وبذلك فإن الترابط الاجتماعي يساعد على منع التمرد، وحتى عندما يكون التضامن ذا طبيعة لا تسمح بإدخال رب العمل في دائرته فإنه يقود إلى تعزيز الشعور بالرضا بين العمال وزيادة فاعليتهم وإنتاجهم.

العمل الجماعي والتضحية بالنفس
الحركات الجماهيرية تنجح بمقدار قوتها التنظيمية وتماسكها أكثر مما تنجح بفعل أيديولوجيتها ووعودها، وعندما يضعف نمط اجتماعي سائد أو كان سائداً تصبح الظروف مواتية لصعود حركة جماهيرية ونجاحها في إيجاد تنظيم جماعي أشد تماسكاً وقوة من التنظيم المنهار.
تستمد الحركة الجماهيرية حيويتها من نزعة أتباعها إلى العمل الجماعي والتضحية بالنفس. أما الأيديولوجيا والدعاية فهما  - في رأي هوفر - ليسا إلا أداتين تقودان إلى العمل الجماعي والتضحية، ويقتضي ذلك الإنقاص من قيمة النفس، والتخلّي عن الخصوصية والآراء الشخصية، لدرجة أن يتحوّل عضو الحركة إلى منبوذ وكيان هش إذا خرج منها. فالمحبطون تنمو لديهم على نحو عفوي الرغبة في العمل الجماعي، وفي الوقت نفسه في التضحية بالنفس، وهكذا فإنه من الممكن تفهّم النزعات والأساليب التي تتبع لغسل الأدمغة إذا راقبنا كيف تولّد داخل العقل المحبط، فاحتقار الحاضر، والقدرة على تخيّل أشياء غير واقعية، والنزعة إلى الكراهية، والاستعداد للتقليد، وسرعة التصديق، والاستعداد لتجربة المستحيل، كل هذه المشاعر وكثير غيرها، تزحم عقل الإنسان المحبط، وتدفعه إلى الأعمال اليائسة.
ولا تنبع فاعلية الأيديولوجيا من مضمونها كما يلاحظ هوفر، ولكن من عصمتها عن الخطأ. يقول بيرغسون: "لا تتجلى قوة الأيديولوجيا في القدرة على تحريك الجبال، ولكن في القدرة على عدم رؤيتها وهي تتحرك". وعندما تصبح الأيديولوجيا مفهومة تفقد كثيراً من قوتها، وينزع الأيديولوجي إلى استخدام الكلمات كما لو كان يجهل معناها الحقيقي، ومن هنا يجيء شغفه بالنقاش البيزنطي والجدال العقيم.
إن امتزاج سهولة التصديق بالكذب ليس من خصائص الأطفال وحدهم، ولكن انعدام القدرة على رؤية الأشياء على حقيقتها يقود إلى السذاجة وإلى الكذب في الوقت نفسه.
فالمتطرف يؤمن بفكرة أو قضية لا بسبب عدالتها أو سمّوها، ولكن لحاجته الملحة إلى شيء يتمسك به، ويعتبر المتطرف أية قضية يعتنقها قضية مقدسة، ولا يمكن إبعاده عن قضيته بالمنطق والنقاش، ولا يجد صعوبة في القفز بقوة من قضية مقدسة إلى قضية مقدسة أخرى (كل القضايا التي يؤمن بها مقدسة). يقول أرنست رينان: "عندما يكف العالم عن الإيمان بالله فإن الملحدين سيكونون أشد الناس تعاسة".
ولا يستطيع المتطرف أن يستمد الثقة من قدراته الذاتية أو من نفسه التي تنكر لها، ولكنه يجد الثقة بالتصاقه المتشنّج بالكيان الذي احتضنه، ويعتنق المتطرّف قضية ما، ليس بسبب عدالتها أو سموّها، ولكن لحاجته الملحة لشيء يتمسك به، ومن المستبعد أن يستطيع المتطرّف الذي هجر قضيته أو الذي وجد نفسه فجأة بلا قضية أن يتأقلم مع وجود فردي مستقل، الأغلب أنه سيبحث عن قضية أخرى، شأنه شأن المسافر المفلس الذي ينتظر مرور سيارة تحمله مجاناً.
والكراهية هي من أهم العوامل التي تشجّع على التجمع المتطرّف، وهي أكثر العوامل الموحّدة شمولاً ووضوحاً، فالكراهية الجماعية تستطيع أن توحّد العناصر المتنافرة، وكثيراً ما يحدث عندما يظلمنا شخص أن تتحوّل كراهيتنا إلى شخص آخر أو جماعة أخرى لا علاقة لها بالأمر.
والحركات الجماهيرية تحطم بإثارة المشاعر الملتهبة التوازن النفسي الداخلي، وتضمن اغتراباً دائماً عن النفس، فأي وجود مستقل هو في نظر هذه الحركات هو وجود عقيم لا معنى له، والإنسان بمفرده بائس وملوّث وعديم الحيلة، ولا يمكن للإنسان الخلاص إلا برفض نفسه والعثور على حياة جديدة في أحضان كيان جماعي مقدس (جماعة أو أمة)، وازدراء النفس هذا يولّد مشاعر تظل في حالة اشتعال دائم.

أهداف الحركات الجماهيرية
تتبنى الحركة الجماهيرية أهدافاً مستحيلة وغير واقعية، تتماشى مع رغبات المحبطين، ويشعر المحبط بالرضا عن الوسائل العنيفة التي تتبعها الحركة الجماهيرية أكثر من شعوره بالرضا عن أهداف الحركة. إن التطلّع إلى الشيء لا امتلاكه بالفعل هو الذي يؤدي إلى التضحية بالنفس، فالأحلام والرؤى والآمال الجامحة أسلحة وأدوات فاعلة. وعندما تبدأ حركة في عقلنة أيديولوجيتها وجعلها مفهومة، فمعنى هذا أن فترتها الديناميكية قد انتهت، وأنها أصبحت حريصة على الاستقرار، والاستقرار يحتاج إلى استقطاب المثقفين وكسب ولائهم، فتبتعد عن تحريض الجماهير على التضحية بالنفس، ومن هذا الحرص يجيء الحرص على شرح الأيديولوجيا وعقلنتها.

خلاصة
يعتبر الباحث الأميركي إريك هوفر أن أول ما يجذب المنضمين الجدد إلى حركات ثورية صاعدة هو رغبتهم في التغيير المفاجئ لأوضاعهم المعيشية، أي أن الحركات الثورية بالنسبة إليهم هي أداة واضحة من أدوات التغيير، والحركات الدينية والقومية قد تكون هي الأخرى وسائل للتغيير. وكي يندفع الرجال في مغامرة تستهدف تغييراً شاملاً، يجب أن يكون لديهم الشعور بأنهم عبر اعتناق العقيدة الصحيحة أو اتباع الزعيم الملهم، أو اعتناق أساليب جديدة في العمل الثوري، سيصبحون قوة لا تُقهر. بالإضافة إلى ذلك كلّه، يجب أن تكون لديهم تطلعات جامحة إلى المنجزات التي ستجيء مع المستقبل. كذلك، يجب أن يكون هؤلاء جاهلين جهلاً تاماً بالعقبات التي ستعترض طريقهم، فالرجال الذين أشعلوا الثورة الفرنسية لم يكن لديهم أي قدر من الخبرة السياسية. والأمر نفسه يصدق على البلاشفة والنازيين والثوار في آسيا. أما الرجال المجرّبون ذوو الخبرة فيأتي دورهم في مرحلة لاحقة، إذ إن هؤلاء لا ينضمون إلى الحركة إلا بعد التحقّق من نجاحها، فخبرة المواطنين الإنكليز السياسية مثلاً، هي التي تجعلهم بمنأى عن الحركات الثورية.
يؤكد هوفر أنه عندما يصبح الناس جاهزين للانضمام إلى حركة جماهيرية، فإنهم عادة، يصبحون جاهزين للالتحاق بأي حركة فاعلة، وليس بالضرورة إلى حركة بعقيدة معيّنة أو برنامج معيّن. في المدة التي سبقت صعود هتلر إلى الحكم كان من المستحيل أن يتوقع أحد ما إذا كان سينضم الشباب المتوترون إلى الشيوعيين إو إلى النازيين. وفي أثناء غليان روسيا القيصرية كان اليهود والروس مستعدين للثورة على القيصر، وللانضمام إلى الصهيونية في الوقت نفسه، فكان أحد أبناء العائلة الواحدة ينضم إلى الثوار والآخر ينضم إلى الصهاينة. ويقتبس الكاتب هنا كلام والدة الزعيم الصهيوني حاييم وايزمن: «كل ما قد يحدث سوف يكون ساراً. إذا كان صموئيل (الإبن الثوري) على حق، فسنكون سعداء في روسيا، وإذا كان حاييم (الإبن الصهيوني) على حق، فسنذهب إلى العيش في فلسطين». هذا الاستعداد للتحوّل، لا ينتهي بالضرورة، عند اعتناق "المؤمن الصادق" حركة ما. فعندما تكون هناك حركات جماهيرية متنافسة نجد حالات كثيرة من نقل الولاء من حركة إلى أخرى.

وبما أن الحركات الجماهيرية تستمد أتباعها من الأنماط البشرية نفسها وتجذب النوعية نفسها من العقول، يستنتج هوفر بأن جميع الحركات الجماهيرية متنافسة في ما بينها ومغنم واحدة منها لا بد من أن يكون مغنم الأخرى. يشير هوفر إلى أن المنبوذين والمهمّشين هم المادة الخام التي يُصنع منها مستقبل الأمة، أي أن الحجر المطروح في الشارع يصبح حجر الزاوية في بناء عالم جديد. فالأمة التي تخلو من الغوغاء هي التي تتمتع بالنظام والسلام والاطمئنان، إلا أنها أمة تفتقر إلى خميرة التغيير. أما السبب الذي يجعل هؤلاء الغوغاء يؤدون دوراً مهماً في مسيرة الأمة هو أنهم لا يكنون أي احترام للأوضاع القائمة. إنهم يعدون حياتهم فاسدة بلا أمل في العلاج، ويحملون النظرة نفسها إلى الأوضاع القائمة. ومن هنا فإنهم على استعداد، دوماً لتحطيم كل شيء ونشر الفوضى والقلاقل. فالغوغاء يتوقون إلى صهر أنفسهم التي يعدّونها بلا معنى في عمل جماعي موحّد. الغوغاء دائماً في مقدمة الأتباع، سواء كنا بصدد ثورة أو هجرة جماعية أو حركات عرقية، وهم من يطبعون الحركات التي تغيّر طبيعة الأمم ومسار التاريخ.
وتبدأ رحلة التحوّل إلى الإرهاب من العقل المهزوم حيث يرى الإنسان المحبط عيباً في كل ما حوله فينسب كل مشكلاته إلى فساد عالمه ويتوق إلى التخلّص من نفسه بوصفه فرداً وصَهْر ذاته في كيان نقي جديد يريحه من الإحساس بالغربة القاتلة ويمنحه أمان الانتماء إلى أسرة جديدة تحتضنه وتعيد إليه احترامه لذاته. فالمتطرف الحقيقي هو الذي يدعي بأنه مالك الحقيقة المطلقة ولا يقبل من يقول بأن الحقيقة نسبية بل يسعى إلى عزله أو أبلسته قبل نفيه. وهو أحادي التفكير لا يقبل بتعددية الأفكار، مقتنع بأن قضيته مقدسة.
يقول هوفر إن شخصية أمةٍ ما ومصيرها تحددهما العناصر الأقل قدراً فيها، وكثيراً ما تتحكم في الأغلبية أقليات الصفوة من الطرف، والغوغاء من طرف آخر، ودون مبالاة بالأغلبية التي تقع في الوسط. ويخلص إلى أن الأمة التي تخلو من الغوغاء هي التي تستمتع بالنظام والسلام والاطمئنان، إلا أنها أمةٌ تفتقر إلى التغيير، لكن هذا التغيير قد يكون مدمراً.
تأتي أهمية كتاب "المؤمن الصادق" من واقع انتشار الحركات المتطرفة والإرهابية في عالمنا العربي والإسلامي وسيطرة الغوغاء على الشارع لحرف مسار الأمة وسوقها إلى الفوضى التدير بدل التغيير والتطوير.

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

السيرة الذاتية للدكتور هيثم مزاحم

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم