السلفية اللبنانية... غلبة الجهادي على الدَّعوي

بقلم: د. هيثم مزاحم



خلاصة بحث هيثم مزاحم' الحركة السلفية في لبنان من الدعوة إلى الجهاد'، ضمن الكتاب 83 (نوفمبر 2013) 'السلفية المتمحورة وأخواتها الحالة والمجالات'' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي. نشر في موقع ميدل ايست أونلاين




تعود نشأة السلفية كتيار في لبنان إلى العام 1964 بدعوة الشيخ سالم الشهال في طرابلس. ويعتبر الباحث الدكتور سعود المولى في دراسته "السلفيون في لبنان: التأرجح بين الدعوة والسلاح" أن هذا التاريخ يشكّل بداية الانتظام الإسلامي السني في لبنان في حركات دعوية سلفية أو سياسية إسلامية.

فقد بدأ الشيخ سالم الشهال(ت 2008) سلفيته على نحو عصامي وليس من خلال جامعة أو مؤسسة، وإنما تعرّف على الدعوة السلفية من خلال مجلة "المنار"، ثم من خلال كتب قرأها للشيخ ناصر الدين الألباني وابن عثيمين وابن باز"، إلى جانب رحلاته المتعددة إلى المملكة العربية السعودية. ويرى الباحث علي عبد العال أن الشيخ الشهال هو رأس الحركة السلفية المنظمة، التي كانت ككل حركات السلفية في البلاد العربية معنية فقط بالجوانب الدعوية والتعليمية والأعمال، بعيدة تقريبًا عن أي شكل من أشكال الصراع الداخلي أو العمل السياسي المباشر.

بعد عودته من زيارة قام بها إلى المدينة المنورة عام 1964 التقى خلالها بعدد من شيوخ وعلماء السعودية، أنشأ الشيخ الشهال مجموعة في طرابلس أطلق عليها اسم "شباب محمد"، لم يلبث حتى بايعه بالإمارة أعضاؤها، وهم: الشيخ سعيد شعبان، الذي أسس لاحقاً حركة التوحيد الإسلامي، والشيخ فتحي يكن الذي ساهم في تأسيس "الجماعة الإسلامية" وتولى قيادتها، ورشيد كرامي رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، والشيخ بدر شندر، والشاعر أكرم خضر. ثم أطلق على الجماعة تسمية "جماعة المسلمون" وهي مجموعة قامت على تبني نهج السلف في الدعوة إلى الإسلام والالتزام به، متخذة من العمل الخيري وسيلة للدعوة، فأنشأت مؤسسة خيرية تعنى برعاية الأيتام بدعم من "سعوديين وكويتيين".

تميّزت هذه المرحلة من ميلاد السلفية اللبنانية بغلبة الجوانب الدعوية والتعليمية والأعمال الخيرية، بعيدة تقريبا عن أي شكل من أشكال الصراع والعمل السياسي، وبقيت الدعوة سِلمية قائمة على الحوار والموعظة الحسنة، ولم يؤثر عنه خلالها الخوض في أي خلاف أو صراع مع جهة من الجهات اللبنانية. وكان الشيخ سالم الشهال يتنقل بين مدن وقرى الشمال، وخصوصاً طرابلس والكورة، ويعتمد في دعوته على الوعظ والإرشاد، ويسعى الى إقامة أفضل العلاقات مع البيئة التي تحيط بالمسلمين في الشمال، وخصوصاً المسيحيون. يقول صهره الشيخ حسن الشهال: "خلال نصف قرن من معاصرته للمسيحيين في الكورة، لم تحصل أية مشكلة بينه وبينهم، وكان يؤثر الحوار السلمي والبعد عن العنف".

يرى علوش أن العمل السلفي قد تحوّل مذاك بفعل المتغيّرات السياسية في لبنان من العمل الدعوي السلمي كي يصبح تنظيماً عسكرياً جهادياً سُمّي بـ"نواة الجيش الإسلامي" في سبعينيات القرن الماضي على يد الشيخ داعي الإسلام. ويُرجع الشيخ داعي الإسلام الشهال الوجود السلفي المنظم في لبنان الى فترة حرب السنتين(1975- 1977) فقد كان أول نشوء سلفي مُنظّم، الاّ أنه كان غير معلن، يقول الشهال إن "أول بيان صدر باسم "نواة الجيش الإسلامي" كان سنة 1974. أمّا ظهور التيار السلفي في العلن فقد كان عام 1983 أثناء معركة طرابلس بين الجيش السوري وحركة فتح بزعامة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.

وعن سبب نشأة "الجيش الإسلامي" يقول داعي الإسلام الشهال، إنه جاء "رغبة ممن يعتنقون الفكر السلفي في "تقوية شوكة أهل السنة بشكل عام، ومواجهة هجمة الفساد الخلقي التي ظهرت بوضوح آنذاك بسبب الأحداث، ومواجهة الأحزاب من يسارية وشيوعية وقومية، أي القوى غير الإسلامية المعادية للعمل الإسلامي في طرابلس" التي ظهرت بقوة عام 1982 في لبنان، وبخاصة في طرابلس التي كانت – بنظر الشهال – "الخزّان الحقيقي المموّل مادياً وبشرياً للجبهات، التي كانت مفتوحة في وجه العدو الإسرائيلي وعملائها كـ"جيش لحد" في صيدا وسائر مناطق الجنوب، فضلاً عن دعم الحركات التي وقفت في وجه الاحتلال الإسرائيلي في بيروت.

لقد مارس "الجيش الإسلامي" العمل العسكري في طرابلس خلال الحرب الأهلية، وخصوصاً بعد سيطرة حركة التوحيد على طرابلس أعوام 1982-1985، وكان الشيخ سعيد شعبان مؤسس حركة التوحيد وأميرها واحداً من المجموعة التي أسست التيار السلفي مع الشيخ الشهال العام 1946. كما ساهم لاحقاً في تأسيس جماعة "عباد الرحمن"، وهي الإطار الإخواني الأول في لبنان، بين عامي 1950 و1951، وأصبح بعد ذلك عضواً في "الجماعة الإسلامية" التي شكّلت كفرع "لجماعة الإخوان المسلمين" في لبنان. وبعدما أصبح شعبان عضواً في مجلس الشورى في الجماعة، تركها عام 1980 بسبب الخلاف بشأن منهجية العمل الاسلامي، وحين انهزمت حركة التوحيد أمام الجيش السوري والأحزاب اللبنانية- الفلسطينية المتحالفة معه، جرى حلّ "الجيش الاسلامي" عام 1985 من قبل المسؤولين عنه. يرى الدكتور سعود المولى أنه "لا يمكن فهم توسّع دور التيار السلفي وتعاظمه في لبنان مع بداية الثمانينيات الا بالإشارة إلى استفادته واستظلاله بحركة التوحيد الإسلامي، التي شكّل حضورها العسكري والسياسي (المدعوم من حركة فتح) نوعاً من الغطاء لتوسّع نشاط السلفيين الذين كانوا قريبين من أميرها الشيخ سعيد شعبان، “خصوصاً داعي الإسلام الشهال، فقد كانت بينهما علاقات شخصية جيدة".

خصوصية طرابلس

إذن، كانت مدينة طرابلس أول من استحضر الفكر السلفي إلى لبنان، ومنها انطلق إلى باقي المناطق، فهي بحق معقل السلفية الأول في لبنان، وفيها نحو عشرين جمعية سلفية"(23). ويتساءل سعود المولى: لماذا كانت طرابلس بالذات هي مهد نشوء الحركة السلفية، كما كانت مهد نشوء الجماعة الإسلامية وحزب التحرير وحركة التوحيد وغيرها من الحركات الإسلامية السياسية؟ ويجيب بأن خصوصية طرابلس تعود إلى "أسباب تاريخية- سوسيولوجية؛ فبورجوازية طرابلس المرتبطة اقتصاديًا وتجاريًا بالداخل السوري لم تقبل أبدًا بفصل لبنان عن سوريا، وبقي ذلك الموقف ظاهرًا وخفيًا في أساس الكثير من الأمور، مثل وجود نقابات مهن حرة في طرابلس مستقلة ومنفصلة عن بقية نقابات لبنان الموحدة في نقابة واحدة مركزها بيروت. وكانت طرابلس مركزًا للحركات المطالبة بالوحدة مع سوريا في العشرينيات والثلاثينيات، واستمرت على هذا الموقف حين رأت البورجوازية البيروتية ضرورة الاستقلال اللبناني بعد عام 1936.


لم تقبل طرابلس فعليًا بالاستقلال اللبناني بل احتضنت كل الحركات القومية العربية وخصوصًا الناصرية". كما أن طرابلس قد حافظت على وضعها كمدينة إسلامية تقليدية، قاعدتها الاجتماعية الأساسية تتشكّل من صغار الحرفيين، وذلك بفعل التهميش الاقتصادي والاجتماعي الذي تعرضت له. كما حافظت على الوجود القوي والمتميز للصوفية التي تنتشر بين عائلاتها الرئيسة، الأمر الذي يفسر أيضًا سبب تأخر تشكل ثم انتشار التيار السلفي فيها.

لا شك أن كون طرابلس وشمال لبنان منطقة محافظة وتقليدية تضم الكثير من الفئات المهمشة والفقيرة قد جعلها بيئة خصبة لعمل الحركات الإسلامية والسلفية.

Comments

Popular posts from this blog

مقامات الأنبياء والرسل في لبنان

السيرة الذاتية للدكتور هيثم مزاحم

أسباب الصراع بين المماليك والعثمانيين- مراجعة: د. هيثم مزاحم